فالشعور على البعد كالشعور على القرب جائزان، ووسيلة الشعور على البعد ليست بأصعب من وسيلة الشعور على القرب بالعيون والاذان، وإن كنا لا نستغرب هذه كما نستغرب تلك لطول لالفة وتكرار المشاهدة بين جميع الأحياء
وحد التصديق عندي لهذه العوارض هو وجود الأساس الذي تعتمد عليه
فإذا كان كل ما في أمر أنه تكبير للحس الذي تعودناه أو مضاعفة له وتقريب لإبعاده ومسافاته فلا مانع من صدقه، وإذا كان في الدعوى ما يحوجنا إلى فروض لا أساس لها من المشاهدات والمعقولات فهنالك موضع للتردد والاشتباه
وعلى هذا اقبل دعوى التنويم المغناطيسي - مثلاً - إذا ادعى للنائم أنه يبصر شيئاً موجوداً على مسافات بعيدة، ولكني لا اقبل منه هذه الدعوى إذا تعدى ذلك بما سيكون بعد عام أو بعد شهر أو بعد يوم، وليس له وجود قائم الآن
وكذلك اقبل دعوى الشعور البعيد أو النظر البعيد إذا كان بمثابة السمع المضاعف أو البصر المضاعف، لأن امتناع ذلك يحتاج إلى مانع قاطع ولا سبيل إلى القطع فيه، ولان القول بجوازه لا يتعدى كثيراً أن نقول بجواز رؤية العيون وسماع الآذان
وينبغي للعقل أن يتمهل في قول (لا) كما يتمهل في قول (نعم) كلما سمع بما يشككه ولا يوافق معهوده. فإن العقل ليكون خرافياً بقول (لا) في غير موضعها كما يكون خرافياً بقول (نعم) في غير موضعها؛ وإنما هذه خرافة تثبت بالباطل وتلك خرافة تنفي بالباطل، ولا فرق في الباطل بين نفي واثبات
الشعور على البعد جائز ما جازت الصلة بين الإنسان وموضوع شعوره وقد رأينا أن هذه الصلة لا تنقطع في طريق صوت كالهمس على مسافات الألوف من الفراسخ والأميال، فقبل أن ننفي الصلة بين نفسين يبتغي أن نتمهل طويلاً حتى نوقن من وجه الاستحالة والامتناع؛ ولن يكون هذا اليقين إلا ببرهان قاطع. والقول بهذا البرهان القاطع قبل أن يوجد ويتقرر هو أجرأ على العلم والعقل من التصديق بغير برهان اعتماداً على المروي والمشاع.