جلب على نفسه السخط والنقمة وعليه أن يرضي ضميره وضميره ضمير فيلسوف عالم لا يؤمن إلا بالعلم ولا يثق إلا بالعقل، وهذا ما لا يرضي معظم الناس طبعاً
وقد اتبع الفارابي في معالجة ضروريات مدينته والدوافع الطبيعية التي تدفع الإنسان إلى الاجتماع طريقة الفلاسفة الطبيعيين مبتعداً في كثير من الأحايين، وعلى الأخص في القسم الأخير من كتابه على طريقة الفلاسفة المنطقيين. تراه يشبه المدينة بجسم حي ثم يأخذ في شرح أهمية كل عضو من أعضاء هذه المدينة، يفعل ذلك على نحو ما يفعل علماء الاجتماع في هذا اليوم، ويتوصل من ذلك إلى نظرية يضعها هي نظرية التفاوت بين قابليات الأفراد وبين قابليات العناصر البشرية وبين قابليات الحكام والأتباع. وهي نظرية عامة يطبقها حتى على المعايير الأخلاقية والقواعد الأدبية والاجتماعية
يترأس مدينة الفارابي رئيس لا يرؤسه إنسان آخر أصلاً هو الإمام، وهو الرئيس الأول للمدينة الفاضلة، وهو رئيس الأمة الفاضلة، وهو رئيس المعمورة من الأرض كلها، ولا يمكن أن تصير هذه الحال إلا لمن اجتمعت فيه بالطبع اثنتا عشرة خصلة قد فطر ذلك الرئيس عليها. واجتماع هذه الخصال كلها في إنسان واحد عسر، لذلك لا يوجد من حظي بهذه الفطرة إلا الواحد بعد الواحد والأقل من الناس. فإذا اجتمعت الحكمة في شخص والصفات الأخرى في شخص كانا هما رأسين في هذه المدينة، فإذا تفرقت الخصال في جماعة وكانوا متلائمين كانوا هم الرؤساء الأفاضل
وللحكمة في هذه المملكة حظ عظيم كما هي في مملكة أفلاطون؛ ولكن حكيم أفلاطون حكيم زمني لا يأتيه الوحي ولا يعتمد على إلهام من السماء؛ أما حكيم الفارابي فهو حكيم مسلم بكل معنى الكلمة يمثل زمان الفارابي خير تمثيل، يأتيه الوحي ويتنزل عليه الإلهام؛ وله سلطان واسع في الحكم لا حد له هو أفلاطون في ثوب رسول كريم. وفي هذه النقطة من البحث تجتمع العقلية الشرقية بالعقلية الغربية، تجتمع وجهة نظر أفلاطون بالنسبة للفيلسوف الحكيم الحاكم بوجهة نظر الشرقيين، وهي السيادة المطلقة التي هي من ضروريات الحكم لدى الشرقي، وهنا تلتقي الفلسفة اليونانية بالفلسفة الإسلامية، فيتكون من امتزاج الفكرين صورة جميلة على أحسن ما يكون
يظهر التأثير الإسبارطي واضحاً في جمهورية أفلاطون، وفي (السياسة) لأرسطو، وتظهر