الصفات اللازمة لكل من يشتغل بالعلم. ومن بين هذه الصفات أن يكون محباً للعمل جَلداً صبوراً فلا تمنعه وعورة البحث ولا المصاعب والعقبات مهما كان نوعها عن مواصلة البحث، ولا توقفه ندرة المصادر، ولا يصرفه عن عمله غموض الحقائق التاريخية واختلاطها، فيقضي الشهور والسنوات وهو يعمل ويرتحل من بلد إلى آخر بحثاً عن الحقيقة. ويلزم المؤرخ أن تكون له ملكة النقد، فلا يقبل أي كلام، ولا يصدق أية وثيقة إلا بعد الدرس والاستقراء، فيأخذ الصدق والحق ويطرح ما دون ذلك. والمؤرخ لابد أن يكون مخلصاً أميناً شجاعاً، فلا يكذب ولا ينتحل ولا ينافق، ولا يخفي الحقائق التي قد لا يعرفها غيره في بعض الأحيان، والتي قد لا ترضيه أو لا ترضي قومه؛ فإنه لا رقيب عليه غير ضميره. والمؤرخ ينبغي أن يكون بعيداً عن حب الشهرة، وألا يحفل بالكسب وبالألقاب وبالجاه؛ فإن الحقيقة التاريخية التي قد يكشف عنها تعدل كل ذلك أو تزيد. والمؤرخ ينبغي أن يكون قوي الشخصية، فيستطيع أن يكون آراءه بناء على الواقع التاريخي، ويعرضها علينا، فنلمس شخصيته خلال السطور. والمؤرخ ينبغي أن يكون صاحب إحساس وعاطفة وتسامح وخيال؛ فيدرك آراء الغير ونوازع الآخرين، ويحس ما جاش بصدور الناس من شتى العواطف، ويفهم الدوافع التي حركتهم في اتخاذ سلوك معين في الزمن الماضي، ويشارك رجال الأمس مواقفهم في ساعات التاريخ الفاصلة، في فترات الانقلاب، وفي عهود المقاومة العنيفة، وفي ظروف النجاح والفشل؛ لأن المؤرخ المجيد يجد في كل هذه الحوادث صدى نفسه، فتتجلى فيه روح العلم والفن، ويبعث التاريخ حياً، ويحيا في التاريخ، ويعيش للتاريخ.
وإذاً فما هو الطريق الذي نتبعه لكتابة التاريخ؟ وما هي طريقة البحث التاريخي؟ طريقة البحث التاريخي عبارة عن العملية والمراحل التي يصل خلالها الباحث إلى الحقيقة التاريخية، بجمع الأصول والمصادر، ودراستها ونقدها، واستخلاص الحقائق وتنظيمها وعرضها عرضاً تاريخياً معقولاً. إنما نلاحظ بأنه ليس المقصود بالحقيقة التاريخية إمكان الوصول إلى معلومات صحيحة على الإطلاق؛ فالحقيقة المطلقة غير مستطاع الوصول إليها فيما يتعلق بالوقت الحاضر فضلاً عن الماضي، لظروف مختلفة كالأغراض والمصالح، أو لضياع الأدلة وانطماس الآثار. فالحقيقة التي يصل إليها الباحث في التاريخ