يخطئون ويصيبون؛ وإنما الدين وحده هو الحري بنشر التعاليم الصحيحة والأخلاق الفاضلة التي يوحي بها العليم الحكيم؛ ومن ثم أصبحت الأخلاق لا ترتكز على النظر المنطقي السليم، بل على الوحي المسيحي وحده، وصار أجل الفضائل في نظر المسيحية هو حب الله والإيمان به اللذان يوصلان إلى الخير الأسمى والسعادة الكاملة في الدار الأخرى بدل أن كان أرقى الفضائل وأسماها هي الحكمة في رأي الفلسفة اليونانية
أما الإسلام فلم يبخس العقل حقه ولم يحجر عليه في التفكير. أمرنا أن نعمل عقولنا فيما خلقت له، وأن نفكر في خلق السموات والأرض:(وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون. إن في ذلك لآيات لأولى الألباب). كذلك لم يلجأ الإسلام في تحديد قيم الأعمال الأخلاقية، وبيان خيرها من شرها إلى ما فيها من منافع وملاذ في العاجل أو في الآجل كما يتوهم واهم إذا قرأ وصف الجنة، والترغيب فيها، والنار والترهيب منها؛ بل هو يخاطب كلاّ حسب ما يسعه فهمه تمشياً مع الغرائز الإنسانية. حتى إذا فعل المرء خير رجاء الصواب مرات عديدة أصبح له عادة، ويتشربه قلبه ويفهم ما فيه من جمال وسمو ذاتيين، فينتهي به الأمر إلى أن يفعله لذاته وحده. وهذا عين ما أراده الرسول إذ قال:(نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه). أي أن المثل الخلقي الكامل هو ما وصل إليه صهيب وأمثاله من فعل الخير، وترك الشر لذاتهما لا رغباً ولا رهباً.
على أننا نجد في تاريخ التفكير الإسلامي أن فريقاً كبيراً من المسلمين وهم المعتزلة يقررون أن الأعمال توصف بالحسن والقبح لذاتها لا لأن الشرع أمر بها أو نهى عنها، فيكون الشرع مبينا لصفاتها لا مثبتا لما ليس فيها. ويدللون لذلك باتفاق الناس على كثير من الفضائل والرذائل قبل مجيء الشرائع السماوية، إلى غير ذلك من الأدلة التي ليس هذا موضعها وليس هذا رأي المعتزلة وحدهم بل كان رأي غيرهم من مفكري المسلمين وحكمائهم أمثال الفارابي الذي يؤكد أن العقل يستطيع أن يحكم على العمل بأنه خير أو شر بنفسه بدون رجوع للوحي؛ لأن العقل عنده ليس إلا قبسا من النور الإلهي. وابن طفيل في رسالة (حي ابن يقظان) يجعل العقل قادراً على إدراك الحقائق كلها (ومنها طبعاً الخير والشر) وعلى العروج في المعارف العُلى حتى يصل للحقيقة المطلقة، لمعرفة الله تعالى.