أسلوب الرافعي يمتاز بالسلامة والسلاسة والإيجاز والعمق. وهذه المزايا نتائج حتمية لاكتمال عدته وغزارة مادته وصفاء ذوقه وذكاء فهمه. وأشد ما يروعك منه قوة الفن وحركة الذهن. فأما قوة الفن فهي الأستاذية التي تخلق المادة، وتصنع القالب، وتضع اللفظ، وتحدد الرسوم، وتوضح الفروق، وتتصرف بمفردات اللغة تصرف المصور البارع بألوان الطيف، وتخيل إليك أن الصناعة طبع والمعانة سليقة. وأما حركة الذهن فهي حركة الغواص الدائب لا يقف عند السطح، ولا يستقر على القاع، وإنما يضرب بيديه القويتين في أغوار البحر، وقد انقطع عن شواغل الناس بالعين والأذن. على أنها حركة الروية لا حركة العبقرية؛ فمعانيه تقطر ولا تفيض، ولكنها على طول الرشح واعتصار القريحة تصبح منهلاً طامي الجوانب صافي المورد
كان يحمل الفكرة في ذهنه أياماً يعاودها في خلالها الساعة بعد الساعة بالتقليب والتنقيب والملاحظة والتأمل، حتى تتشعب في خياله وتتكاثر في خاطره؛ ويكون هو لكثرة النظر والإجالة قد سما في فهمها على الذكاء المألوف. فإذا أراد أن يعطيها الصورة ويكسوها اللفظ، جلاها على الوضع الماثل في ذهنه، وأداها بالإيجاز الغالب على فنه، فتأتي في بعض المواضع غامضة ملتوية وهو يحسبها واضحة في نفسك وضوحها في نفسه. وذلك عيب المروين من صاغة الكلام وراضة الحكمة، كابن المقفع والمتنبي، وبسكال وبول فاليري. ومنشأ ذلك العيب فيهم أنهم يطيلون النظر ويديمون الفكر ويعمقون البحث حتى تنقطع الصلة بين عقولهم وعقل القارئ، وتتسع المسافة بين معانيهم وألفاظ اللغة، فيكتبون وأفهامهم سابقة سبوق الروح، وأقلامهم متخلفة تخلف الجسم. ويزيد في هذا الغموض أن سعة العقل في النوابغ تستلزم ضيق اللسان. فلا ترى الفضول والثرثرة والرغوة والثغاء إلا حيث يضحل الذهن ويقصر النظر وتنزر المادة. والرافعي كان يقتصد في أسلوبه، لأنه ينفق عليه من جهده ومن ذوقه ومن فنه ما يجعله أشبه بومضات الروح ونبضات القلب ونفحات العافية. فهو يفصل اللفظ على قدر المعنى تفصيل (المودة) الفاشية اليوم؛ يقصر ولا يطول، ويضيق ولا يتسع، ولكنه على ضيقه وقصره يظهر الجسم الجميل على أتم ما يكون حسناً وأناقة
وهو بعد ذلك أسلوب جيد التقسيم سليم المنطق، إلا أنه بعيد الإشارة يستسر جماله على