من كل ما تقدم يتبين لنا مقدار تغلغل مبادئ العطف والإنسانية في ناحية من أهم نواحي الحياة الإسلامية. على أن تقديرنا لمبادئ هذه الرحمة المتجلية في الاهتمام بالأطفال لا يجعلنا نغض الطرف عن أن المسلمين لم يتخذوا الوسائل الكافية لحماية الطفولة ولسد حاجاتها في النواحي المختلفة، فلم يكن لديهم مثلاً قوانين تحمي الأطفال من مزاولة بعض الأعمال التي قد تعوق نموهم، وتحدد السن التي لا ينبغي تشغيل الأطفال قبل بلوغهم إياها؛ كما لم يحددوا سناً لبدء الزواج، فكانت الفتاة تتزوج في سن مبكرة، وترهق بواجبات الأمومة والزوجية وهي لم تزل بعد طفلة. كذلك لم تتوفر المنشآت الخيرية التي تكفي لسد حاجات الفقراء وذوي العاهات. على أن ذلك النقص في وسائل العلاج لا يقلل من قيمة مبادئ العطف والإنسانية التي بني عليها الإسلام، ولا تخفي روح الإحسان التي تفيض بها الحضارة الإسلامية، والتي ظهرت في ميدان الرفق بالأطفال
وإذا كان الغرض الأول من دراسة نواحي الحضارات الغابرة هو تفهم نواحي حياتنا الراهنة والوقوف على مقدار تقدمنا أو قصورنا، فأنا لا نتمالك أن نشعر بالخزي من أنفسنا عندما نستعرض أعمال السلف ونقارنها بمجهودنا الضئيل على رغم ما لدينا من وسائل وتجارب ومعرفة. وعلى الرغم من مرور كل هاتيك السنين لم نتقدم غير خطوات قليلة في ميدان الرفق بالأطفال. فثلاثة أرباع أطفالنا إما مصابون بداء الجهل والأمية وهو أصل كل شقاء، وإما جياع حفاة عراة تموج بهم الطرقات، وإما مرضى بأدواء شتى بسبب إهمالهم وحرمانهم حتى من ماء الشرب النقي. وأخشى كثيراً أن نظهر في مؤخرة الأمم في الحضارة والرقي إذا اعتبرنا مقياس التقدم الحقيقي هو مبلغ تغلغل مبادئ العطف والإنسانية التي تقل مظاهرها لدينا لسوء الحظ
وفي ضوء هذه المآسي، ولشعورنا بما قدمنا وما أخرنا، يبدو لنا الماضي عظيماً حقاً، فنتجه إليه بإعجاب وخشوع، ونتحدث عن آثاره حيناً من الدهر نشعر بعده بشيء من راحة المعترف بالفضل المقر بالذنب