الغدر والافتئات، وقد كان للأمم القديمة كالمصريين والفرس والهنود، من كل هذه الضروب حظ وفير، وفيها يبسط الحكماء المجربون لأبناء جلدتهم ثمار تجاربهم، ويحضون على حسن المعاملة ويدعون إلى الفضيلة.
والشرق، مهد المدنيات القديمة والإمبراطوريات العظيمة، والملكيات المطلقة ذات الحول والأبهة والبذخ، والموارد الواسعة والكنوز الطائلة، هو مهد الحكمة ومطلع الحكماء والأنبياء، فيه تتجلى طباع الأشياء على جهارتها، ويتجاور البذخ المفرط والبؤس المرمض، وتتابع السعود والنحوس، وتتقلب الأيام والدولات وتعقب عصور الرخاء والازدهار عهود الشدائد والأدبار، ومن كل ذلك تستخلص عبر الحياة وعظاتها، ويتجلى لذوي النفوس العالية غرورها وبهارجها، وتنصرف همة الحكماء والفضلاء إلى هداية مواطنيهم إلى سبيل الخير والسلامة وتلقينهم كيف يعيشون في أمن من جور الغاشمين وبطش الأقدار ويسعون جهدهم لتخفيف ما حولهم من آثار البؤس والبلاء، وإصلاح ما يرون من أسباب الفوضى والفساد، وهكذا كان يظهر المصلحون والأنبياء بين اليهود والهنود وغيرهم من أمم الشرق، بين الفترة والفترة.
وللحكمة الصادقة المصوغة في اللفظ البليغ المحكم مكانها في أدب كل لغة: ففي كل أدب ما لا يعد من الحكم المتواترة يقتبسها الأدباء في مواطنها، وقد نسيت أسماء قائلها وضاعت نسبتها وصارت من تراث الأدب المشاع، وفيه كذلك ما لا يعد من آثار الشعراء والكتاب التي أساسها الحكمة وقوامها خلاصات التجارب التي عركتهم؛ وفي الأدبين العربي والإنجليزي تراث حافل من الحكم والأمثال، وفي كل منهما أدباء اشتهروا خاصة بصوغ الحكم وجرت آثارهم على الأقلام والأفواه، لما تمتاز به من صدق النظرة وشمول الفكرة وإيجاز اللفظ.
ففي الإنجليزية اشتهر شكسبير أولاً وبوب ثانياً بروائع حكمهما. وسارت كثير من أبياتهما مسير الأمثال، لما امتز به كلاهما من التمكن من اللغة وبلاغة الأداء ووجازة التعبير، رغم اختلافهما فيما عدا ذلك من نظرة إلى الحياة ومذهب في الفن؛ وندر من كبار أدباء الإنجليزية من لم يسر له مثل أو أكثر فيما توفر عليه من موضوع كالطبيعة والجمال والاجتماع والمرأة وهلّم جرا ومن الإنجيل سرت في اللغة الإنجليزية المكتوبة والمتكلمة