والمضاء والطهر والسمو الروحي الذي لا يحد، ونظرة إلى الأرض تصف السقوط الحيواني، والهوى الشيطاني؛ فترى القارئ مدعواً إلى السماء، مطروداً عن الأرض، طائراً إلى الخير، نافراً عن الشر.
وإذا وصف صاحبنا الجمال، بث في العالم معانيه، ونقض عليه ألوانه، فكأنما خلق العالم خلقاً جديداً. يخلق من الشعاع شمساً، ومن القطرة نهراً، ومن الوردة حديقة؛ ثم يغرد فلا يدري أهذا التغريد تفسير هذا الجمال، أم هذا الجمال تصوير هذا التغريد. . ولا يدري القارئ أهو في ربيع باهر، أم في بيان ساحر؟. وما أشبه قلمه وهو يشقق المنظر الغفل عن سرائر الجمال بإبرة الحاكية، تسلط على الصفحة الجامدة السوداء فتردها كلاماً وأنغاماً وألحاناً؛ واقرأ (عرش الورد) ترى كيف جعل ابنته على عرشها مركزاً يحيط بها الجمال فلكاً دائراً.
ولله مصطفى حين يتغلغل في الجماعات، فيحس آلامها، ويصف أسقامها، ويعرب عما في ضمائر البائسين، وعما في رءوس المتكبرين؛ ولا يزال بالمعنى الذي يراه الناس جماداً، يقدحه حتى يخرج منه النار والنور. ويأخذ الحادثة الصغيرة ينطقها بما وراءها، ويكشفها عما انطوت عليه حتى يقيم بها للإنسانية عرساً أو مأتماً. اقرأ (أحلام الشارع) تسمع أنات البشرية وتر عبراتها وتلمس مصائبها مصورة ملونة بدم المهج وماء العيون ونار الزفرات وحز الحسرات وسواد الفاقة والذلة؛ ثم تسع لعنة الإنسانية على لسان ما خلقت الإنسانية من قوانين. والعجب انك كلما أسال الحزن عبراتك طبع البيان الساحر على شفتيك بسمة إعجاب لا تملك نفيها. واقرأ (عربة اللقطاء) تر انه صاغ من أساريرهم حروفاً للهجاء تسع كل معنى، وتتمثل الآثام التي ولدت هؤلاء، والمصائب التي يحملها هؤلاء، والمفاسد التي سيلدها هؤلاء. وتقرأ (لحوم البحر) فتستمع إلى الشيطان والملك، كل ينشد أناشيده. ويستخرج الرافعي منها دعوة إلى الفضيلة ولعنة للرذيلة، وهو قادر تسخير الشيطان لبيانه. فقد أعطي في البيان ملك سليمان.
وإذا وعظ مصطفى الصادق نفذ إلى السرائر، وصور للإنسان فضائله ورذائله تصويراً لا يدع له إن يختار إلا الأولى وان يهجر إلا الثانية. وهو لا يعمد إلى النذر يصبها على النفس صب السياط، يألم لها الجسم، ويموت القلب، بل يعمد إلى الحياة يصورها هنا على