والرافعي يغرب أحياناً، أو يدق فينبهم معناه. وفي هذا ثورة بعض الأدباء عليه، ولكن الذي آمن بقدرته فيما وضح واستبان من كلامه يؤمن انه حين يغمض يتحيل لمعنى دقيق خفي لم ترضه الألفاظ، ولم يذللُه الكتاب، أو يتلطف لفكر نفور آبد ليختله. وكثيراً ما يخيل إلي وأنا اقرأ آبدات الرافعي إني اتبع بصري طائراً يرتفع في اللوح ثم يرتفع حتى تضمره السحب؛ فلا تراه العين ولكنها تعرف انه في جو السماء. فان قيل أن هذا حكم الإعجاب والرضى، قلت فإني اتهم نفسي فلا ادفع عن هذه الأوابد. ولكن وحي القلم بريء من الغموض والانبهام، وإنما اكتب اليوم عن وحي القلم.
وهذا الكاتب النابغة نزاع إلى الجمال، طماح إلى الفضيلة، مولع بكل خلق كريم، فلا يعالج أمراً إلا حلق به إلى الجمال والرأفة والرحمة والإحسان والحرية والإقدام وهلم جراً.
وقلبه فياض بالإيمان والطهر، فإذا كتب في الدين وما يتصل به ارتقى إلى حيث تنقطع المطامع. اقرأ مقاله:(سمو الفقر في المصلح الاجتماعي الأعظم). إنها تملأ القارئ إعجاباً، وتسمو به حتى يحسب نفسه ملكاً محلقاً يرى مآتم الناس ومصائبهم من حيث لا تتعلق به ولا تستهويه؛ ولا يوفق لهذا البيان إلا مسلم ملهم كالرافعي، يكتب في حقيقة علوية كالنفس المحمدية. ثم اقرأ في مقاله:(الله اكبر) وصف المسجد ونشيد الملائكة؛ لقد قرأت فكانت تنبعث التكبيرة من قرارة نفسي، فامسكها مؤثراً الاستماع إلى هذا التكبير الذي يدوي به المسجد؛ فلما انتهى المقال لم املك إن رفعت صوتي بآخر كلمته منه (الله اكبر)
هذه النزعات العلوية، والسمو الروحي يتجلى في مقالاته: الإشراق الإلهي، فلسفة الإسلام، حقيقة المسلم، وحي الهجرة، فوق الآدمية، درس من النبوة، شهر للثورة، ثبات الأخلاق.
الرافعي كاتب الإسلام والعربية، يتناول الحديث الصغير في تاريخ الإسلام ومآثر العرب فيجعله عنوان فصل بليغ من الحكمة والموعظة، يسايره فيه القارئ متعجباً: كيف ولدت الواقعة الصغيرة هذه المعاني التي تحاول أن تكون تاريخ جيل؟. اقرأ (زوجة إمام) و (السمكة). واقرأ (يا شباب العرب) و (يأيها المسلمون).
وهذا الكاتب السماوي ابرع الناس تحليقاً بالحب الطاهر، وأعظمهم ترفعاً به، وأبصرهم بالمهاوي والمهالك التي يحلق عنها هذا الحب العلي الأبي. نظرة إلى السماء تصف العلاء