قواعد التربية، ولا نظرية من نظريات التعليم، ظهرت في فرنسا أو إنكلترا، إلا أرادني على تطبيقها، في فصل فيه سبعون تلميذاً قد حشيت بهم المقاعد حشواً، وصفوا على الشبابيك، ووضعوا على الرفوف، ممالا يرضى عنه منهج من مناهج التربية، ولا قانون من قوانين الصحة؛ فإذا انمحت هذه الصورة، رأيت كأني أفهم تلميذاً وهو يصغي إليّ ولا يفهم، فأكرر وأعيد فلا يفهم، فأقوم إليه أنظر ما يصنع، فإذا هو منصرف إلى دُبيرة يربط رجلها بخيط. فإذا شتمته أو أخرجته من الفصل، ذهب يستنجد القانون الذي حرّم العقوبات كلها، وكفّ يد المعلم، وشد لسانه بنسعة. . . ولا أزال في هذه الأحلام، تنوء بي، فأتقلب من جنب إلى جنب، أحس كأن رأسي من الصداع بثقل أُحُد، حتى يصبح الله بالصباح، فأفيق مذعوراً، أخشى أن يسبقني الوقت، فلا أدري كم ركعت وكم سجدت، ولا كيف أكلت ولبست، وأهرول إلى المدرسة لا أستطيع التأخر عنها ولو طحنتني الأوجاع، أو أحرقتني الحمىّ، لأن المعلم لا يسمح له القانون أن يمرض في أيام المدرسة، وعنده أربعة أشهر (عطلة الصيف) يستطيع أن يمرض فيها، فإذا خالف ومرض، حرم الراتب ومنع العطاء!
أغدو إلى المدرسة، فأدخل على تلاميذ السنة الثالثة الأولية، وهؤلاء هم تلاميذي، لم يجدوني أهلاً لأكبر منهم. . . فلا أنفك أقطع من عقلي لأكمل عقولهم، وأمزق نفسي لأرقّع نفوسهم، ثم لا أفلح في تعليمهم ولا أنجح في تفهيمهم، ولا أدري من أين السبيل إلى مداركهم؛ فأنفق ساعة كاملة، أقلّب أوجه القول، وأستقري عبارات اللغة، لأفهمنهم كيف يكون (الاسم هو الكلمة التي تدل على معنى مستقل في الفهم وليس الزمن جزءاً منه) فلا يفهمون من ذلك شيئاً، ولا أقدر أن أطرح هذا التعريف السخيف أو أستبدل به، فأهذي وأهري ثم أقول: من فهم؟
فيرفع ولد إصبعه. فأحمد الله على أن واحداً قد فهم، وأقول:
- قم يا بني بارك الله فيك، فأخبرني عن معنى هذا التعريف
- فيقول: يا أستاذ! هذا داس على قدمي. فأصيح به ويحك
أيها الخبيث! إني أسألك عن تعريف الاسم، فلماذا تضع فيه قدمك؟ ألم أقل لكم إن هذه الشكاوي ممنوعة أثناء الدرس؟