كثيرة الخير كذلك دانية القطوف لا حاجة بها إلى الكفاح ولا عمل لها إلا استمراء ترف الحكمة العليا، انقطعت هي أيضاً من قديم تحت أشجارها المقدسة تبحث عما وراء الحقيقة.
مصر والهند حضارتان قامتا على الروح لأنهما قد شبعتا من المادة، الإغريق على النقيض، أمة لم تشبع من المادة، أمة نشأت في العسر والفاقة، أرضها لا تدر من الخير إلا قليلا، كان لزاماً عليها الكفاح في سبيل العيش، وكان حتماً عليها الجري وراء المادة، حرب تلو حرب، وفتح بعد فتح، وضرب في مشارق الأرض ومغاربها، على هذا النحو لم يكن للإغريق ذلك الضمير المطمئن ولا ذلك الشعور بالاستقرار، ولا ذلك الإيمان بالأرض الذي يوحي بالتفكير فيما وراء الأرض والحياة، إن عاطفة الاستقرار والإيمان ممزوجة بالدم عند المصريين، لأن المصريين نزلوا من بطن الأزل إلى أرض مصر، لا يعرف لهم نسب آخر على وجه التحقيق، واختلاف العلماء في أمر أصلهم لم ينته بعد، وفي كل يوم يبدو دليل على أن العمران والاستقرار وجدا في مصر قبل التاريخ المعروف، ولقد ظهرت الحضارة المصرية في التاريخ تامة كاملة دفعة واحدة، كما يظهر قرص الشمس في الأفق عند الشروق، ولقد قال سولون: إن الكهنة المصريين يعنون العناية كلها بذكريات تلك القارة العظيمة ذات المدنية الزاهرة التي أبتلعها المحيط قبل مبدأ التواريخ: (قارة الأتلانتيد). أترى كانت الحضارة المصرية استمراراً لتلك المدنية المندثرة؟. . . لم يقم دليل، على كل فرض. مصر أمة مستقرة مؤمنة زهدها عمرها الطويل وخيرها الكثير في مباذل الحياة، وهذا الزهد والتفكير فيما وراء الحياة ظهر أثرهما على وجه الفن المصري، ولا شيءيدل على عواطف أمة وعلى عقليتها مثل فنها. فلقد طالع العالم الحديث على وجه الفن المصري الصرامة والجد والعمق ولا أكاد أفتح كتاباً في الفن المصري حتى أجد كلمة (الصرامة) نعتاً من نعوت هذا الفن، ولا أفتح كتاباً في الفن الإغريقي إلا وجدت كلمة (الحياة) وكلمة (الإنسانية) من نعوت هذا الفن، نعم. الحياة هي كل شيء عند الإغريق، قد يدفعهما حب البحث إلى لمس حدود الحياة الأخرى فيلمسونها بالعقل والمنطق لا بالقلب والروح. فلسفتهم فلسفة العقل والمنطق والحياة، فلسفة الحركة لا فلسفة السكون، عند مصر والهند السكون، عند الإغريق الحركة، قرأت حديثاً (المقبرة البحرية) لـ (بول فاليري) وهو المتصل اتصالاً مباشراً بالفلسفة اليونانية. فإذا هو يشير في القصيدة إلى الحركة