الفكرة المصلحة تريد أن تضرب في الأرض وتعمل، وليس حظ النفس شيئا يكون من الدنيا؛ وبهذا تكون النفس أكبر من غرائزها، وتنقلب معها الدنيا برعونتها وحماقاتها وشهواتها كالطفل بين يدي الرجل، فيهما قوة ضبطه وتصريفه. ولو كان في عقيدتنا أن ثواب أعمالنا في الدنيا، لا نعكس الأمر
قالت مارية: فسله: كيف يصنع عمروا بهذه القلة التي معه والروم لا يحصى عددهم؛ فإذا أخفق عمروا فمن عسى أن يستبدلوه منه؟ وهل هو أكبر قوادهم، أو فيهم أكبر منه؟
قال الرواي: ولكن فرس قيس تمطر وأسرع في لحاق الخيل على المقدمة كأنه يقول: لسنا في هذا. . .
وفتحت مصر صلحا بين عمروا والقبط، وولى الروم مصعدين إلى الإسكندرية، وكانت مارية في ذلك تستقرئ أخبار الفاتح تطوف منها على أطلال من شخص بعيد؛ وكان عمروا من نفسها كالمملكة الحصينة من فاتح لا يملك إلا حبه أن يأخذها؛ وجعلت تذوي وشحب لونها، وبدأت تنظر النظرة التائهة، وبان عليها أثر الروح الظمأى، وحاطها اليأس بجوه الذي يحرق الدم، وبدت مجروحة المعاني؛ إذ كان يقاتل في نفسها الشعوران العدوان: شعور أنها عاشقة، أنها يائسة!
ورقت لها أرمانوسة، وكانت هي أيضا تتعلق فتى رومانيا، فسهرتا ليلة تديران الرأي في رسالة تحملها مارية من قبلها إلى عمروا كي تصل إليه، فإذا وصلت بلغت بعينيها رسالة نفسها. . .
واستقر الأمر أن تكون المسألة عن مارية القبطية وخبرها ونسلها وما يتعلق بها مما يطول الإخبار به إذا كان السؤال من امرأة عن امرأة. فلما أصبحتا وقع إليها أن عمرا قد سار إلى الإسكندرية لقتال الروم، وشاع الخبر أنه لما أمر بفسطاطه أن يقوض أصابوا يمامة قد باضت في أعلاه، فأخبروه فقال:(قد تحرمت في جوارنا، أقروا الفسطاط حتى تطير فراخها) فأقروه!
ولم يمض غير طويل حتى قضت مارية نحبها، وحفظت عنها أرمانوسة الشعر الذي أسمته: نشيد اليمامة: