ومضى الوقت وكادت الساعة تبلغ العاشرة وأفكار المرأة ما زالت تضطرب في ساحة ذهنها جيئة وذهوبا. وفيما هي منصرفة إلى زينتها وترجيل شعرها وتعليق حليها وأقراطها، إذا طرقات على باب الغرفة تنفذ إلى أذنيها فيجب لها قلبها وترتعش نفسها أمامه كمجرم أمام قاضيه. وفي الحق لقد كان الداخل (شارل) الذي توقف على الباب لحظة كالمأخوذ بدل أن يدخل عليها لتوه. قالت له الأم مضطربة قلقة وقد شاهدت تأثرا فجائيا يطبع وجهه بطابع الألم؛ مالك يابني؟ فأجابها الغلام: لا شيء لا شيء، إني مشدوه متعجب فقط. . . لقد ألفت أن أراك دائماً في ثياب الحداد. ولكن ولكن. . . أصحيح أن حدادنا على أبي قد انتهى؟ فألقت (مدام ليجيه) على المرآة الكبيرة أمامها نظرة غير عامدة فإذا بها تبصر ملامح وجهها الرائق تنسجم أبدع انسجام مع خصلات شعرها الذهبي، ولكن يناقض ذلك كل المناقصة زي ولدها المدرسي الأسود الغارق كله في حلة من حداد، ويرتجف صوت الأم حين تهم بإجابة ولدها ثم تنجدها لباقتها فتغير مجرى الحديث وتقول:
- ولكن. . . قل لي. . . لعلك مسرور من أستاذك هذا الصباح؟ ثم. . . ثم كيف حال كتابتك في الإنشاء، أظنها أعجبته؟! ثم ناجت نفسها:
- سألبث لحظة قبل الاعتراف له بالحقيقة خصوصاً وهو متأثر ومفاجأ بهذا اللباس والوقت متسع للغداء وللإفضاء إليه بالأمر. . .
على رغم من أن المحامي المتوفى موسيو (ليجيه) قد خلف لعائلته بفضل مركزه الخطير ونجاحه الكثير ثروة لا بأس بها، فإن مدام (ليجيه) لم تخالف شيئاً مما ألفته سابقا من تدبير واقتصاد في الإنفاق على المنزل. ولما كانت مدام ليجيه لا تستقبل في مفتتح عهدها بالترمل إلا أقرباء يمتون إلى الزوج بصلات القربى والمودة، فإن الإعداد لذكرى الميت لم يكن يحملهم جهدا أو مشقة، ولكن أنى لها بملء كرسي زوجها بشخص خاطبها جورج في حفلة الغد؟ أي عذر ستعتذر به لولدها؟ كيف تخل بهذه العادة التي يقدسها ابنها ويمجدها، والتي باتت تهبط روحها وتثقل على قلبها لأن صورة الخاطب أخذت تحتل مكانها يوما بعد يوم من قلبها.
وفي صباح هذا اليوم في وثبة طافرة من وثبات الإرادة الغريزية أمرت مدام ليجيه الخادم فقالت: