وسط هذا العالم المدلهم الذي وجدنا أنفسنا فيه، ونحن لا ندري من أين أتينا إليه، ولم يؤخذ رأينا حينما قذفت بنا الأقدار للعيش في ربوعه والخوض في غمرانه. .
فأرجو من القارئ حين يقرأ ما أكتب عن الأدب، ألا يتصور أنني قد درست المتنبي في ديوانه وتأملت أفكاره واطلعت على خفايا تاريخه، أو أنني انكببت أحفظ قصائده وأقرأ ما كتبه الناقدون عنه، أو أنني تتبعته في رحلاته وغزواته.
فهذه أمور ليس من السهل الإلمام بها، ولست أدعي أنني سأقوم في يوم من الأيام ببحثها ودراستها وتقصي أنباءها، إذ الباقي من العمر قليل، وما أكتبه ما هي إلا أماني ورغبات أرجو أن يقوم بها الغير إذا شاءوا. ولذلك يحق لي أن أصرح بأن المتنبي كشاعر عالي رج الدنيا ولا يزال شعره يرج النفوس ويهزها، لم يلق من رجال الأدب العربي ورعاة الشعر ما يستحق من عنايتهم، أقول هذا على رغم ما كتبه المعاصرون عنه، وبرغم ما ذكره المتقدمون من أن أكثر من ستين عالماً لغوياً قد تصدوا لديوانه بالنقد والتفسير والتفنيد. إن لا يزال في نظري مع عصره وحياته وفكره وشعره دنيا جديدة للبحث والتأمل والدرس والجمع والتبويب. إنه ليس بشاعر يدرسه طالب في رسالته أو أطروحته، ولا برجل يتقدم أديب واحد أو عالم واحد، كائناً ما كان علمه وفضله، فيكتب فيه كتاباً ويقول هاكم اقرءوا كتابيه، فقد قرأت المتنبي ودرسته وفهمته إن مثل هذا لا يقال عن أبي الطيب المتنبي وفيه ظلم لتاريخه وافتئات على عبقريته، لأن المتنبي ومعه غيره من فطاحل شعراء العرب في مختلف العصور، يحتاجون إلى جيل من الناس، ينكب على دراستهم بأسلوب علمي صحيح.
وليعذرني القارئ إذا قلت إن المتنبي يستحق أن ينصرف لديوانه وعصره مجموعة من علماء العرب: في اللغة والأدب والتاريخ والجغرافيا والاجتماع وعلم النفس، لأن كل ناحية في المتنبي تحتاج إلى كشف جديد ودراسة وبحث وتدقيق وجمع وتبويب، وأن أسماء البلاد التي جاء ذكرها في شعره عن سيف الدولة هي المرجع الوحيد لنا للحروب التي قامت يوماً ما بين المسلمين والروم، وهي حروب ليس من السهل تقصي أجنادها. .
والصورة التي أعطيها للمتنبي في هذه الكلمة متواضعة، لأنها قاصرة على سفره من مصر وخروجه منها في ليل عيد الأضحى سنة ٣٥٠ ووصوله الكوفة في ٢٥ ربيع الأول سنة