للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

المقفع أشد تنديد في مواضع عدة من كاتباته. وقال عن أصحابها في تبرم واضح (ومن كان يصنع المعروف لبعض منافع الدنيا فإنما مثله فيما يبذل ويعطي كمثل الصياد وإلقائه الحب للطير، لا يريد بذلك نفع الطير، وإنما يريد بذلك نفع نفسه؛ فتعاطى ذات النفس أفضل من تعاطي ذات اليد).

أما إذا كانت المنفعة وليدة الصداقة فهي بلا ريب مودة مثالية فاضلة ينشدها عشاق الفضيلة وأرباب المروءة، إذ أن الإنسان مهما عظم جبروته وطغى سلطانه، في حاجة قوية، إلى من يطلع على خبيئة سره، ويستكشف ذات صدره، فيشاركه الرأي ويقاسمه التفكير، وهذه هي الصداقةبمعناها الصحيح، وقد حبذها ابن المقفع بكل قواه، وله فيها حكم بينة، كأن يقول (أعلم أن إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا، وهم زينة في الرخاء، وعدة في الشدة، ومعونة على خير المعاش والمعاد، فإذا نابت أخاك إحدى النوائب من زوال نعمة أو نزول بلية، فأعلم أنك قد ابتليت معه إما بالمؤاساة فتشاركه في البلية، وإما في الخذلان فتحتمل العار، وأن أول أهل الدنيا بشدة السرور من لا يزال ربعه من إخوانه وأصدقائه من الصالحين معموراً، ولا يزال عنده منهم جماعة يسرهم ويسرونه ويكون من وراء حاجاتهم وأمورهم بالمرصاد، فإن الكريم إذا عثر لا يأخذ بيده إلا الكرام، كالفيل إذا وحل لا تخرجه إلا الفيلة).

وباب الحماسة المظوقة في كتاب (كليلة ودمنة) يدور حول المنفعة المتولدة من الصداقة، بل أن ابن المقفع جعل مزية الصداقة الوحيدة هي ما يعقبها من معونة الأصدقاء، ومساعدة الإخوان، فالحمامة لم تنج من الشرك إلا بفضل صديقها الفأر، والظبي لم يفلت من الصياد إلا بمعونة صديقه الغراب، والسلحفاة لم تتمتع بالحياة إلا بمساعدة الجرذ، وهكذا يضرب الحكيم النابغة أمثاله للناس (وما يعقلها إلا العالمون).

وإذا كان الرجل قد أجادفي الحديث عن الصداقة إجادة محمودة، فإنه أبدع في الكلام عن العداوة إبداعا يستدعي الانتباه، ويقيني أنه لم يلح في إكبار الصداقة إلا بعد أن حيكت له الدسائس، وذاق من الأعداء صنوفا أثيمة من الكيد والختل، وليس بغريب على نابغة كابن المقفع أن يكثر حساده ومبغضوه، وهل يحسد من الناس غير المبجل في عشيرته، العظيم في دولته؟ وهل يتعرض الشانئون لغير من يبزهم في المنزلة، ويرتفع عنهم في المكانة،

<<  <  ج:
ص:  >  >>