وبعد، فلماذا ننكر على هذا الرجل أنه فقد عزة الرجولة، واتخذ لباس المرأة، ولا ننكر على الكثرة الكاثرة من هذه الأمة أنها فقدت عزتها، واعتدادها بنفسها، وكبرياءها القومية، وشعورها أنها أمة هي أعظم الأمم في الجاهلية والإسلام، وأنها إن قدر عليها أن تذل حيناً، فما من أمة إلا وقد ذلت ذات مرة، ولكنها لن تذل مرة أخرى، ولن تعود إلى الغفلة والمنام. . .
إن رأس أدوائنا هو هذا اللطف، والحرص على أن نكون مؤدبين، لا نؤذي محدثنا أو جليسنا. هذا للطف وهذا الإكرام للضيف هو الذي جرأ علينا الأجانب، جنوداً وتجاراً، حتى ملكونا بجيوشهم ومعاملهم وشركاتهم ومتاجرهم، ولا خلاص لنا، أعنى لا خلاص لمصر من هذا كله ألا بأربع خلائق يجب على كتابها وصحفييها ومدرسيها وصانعي أفلامها أن يعلموها الناس وأن يخلقوهم بها، هي حب المال أولاً، وحب المال إن زاد كان مذمة للفرد ونقيصة، ولكنه لا يكون للشعب إلا خيراً، وما أفلح شعب لا يحب في مجموعه المال. وحب الأسفار ثانياً. . . كونوا كإخوانكم الشاميين، هل طلع كوكب إلا على نفر منهم؟ اقتحموا البحر والصحراء، إلى أمريكا شماليها وجنوبيها، وأفريقية أدناها وأقصاها، والهند واليابان وأوربة، وما نزلوا بلداً إلا كانوا من كبار تجاره، ومن وجوه سراته، عاشوا تحت كل نجم، وجابوا كل أرض، وخالطوا كل أمة. . .
وترك هذا اللطف ثالثاً، وتعود الشدة في الحق، والثقل على العدو، والمزاحمة على العيش، وأن يحس مصري بعد هذا كله، بل قبل هذا كله، أن البلد بلده وأنه أحق به من كل خواجة وكل دخيل، وأن له هو طيباته وخيراته، وأنه أكرم من هذا الدخيل (كائناً من كان هذا الدخيل) أصلاً، وأعز نسباً، وأبين لساناً، وأقوم ديناً، وأجل أثراً في الدنيا، فلا يطأطئ رأسه لأحد، ولا يحني هامته لإنسان، ولا يرضى بالدنية من مخلوق في الدنيا.
بهذه الأخلاق ننقلب مرة أخرى، ويرى هؤلاء الأجانب ماذا يصنع الأسد الجريح، إذا برئ، بالثعالب التي كانت تلعق دمه.