للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الحق في جهته والباطل في جهة صاحبه. أما الحكم والمواعظ فأشياء كانت في نفس على غرسها فيها حب الصلاح للناس يلقيها عليهم يبين لهم طريق الهدى ومنارة الحق ويذكرهم بالله ويفهمهم المعاش والمعاد، مما يدل على إخلاص علي وطيبة نفسه وسمو روحه وكرم أخلاقه وقوة إيمانه وحبه للمسلمين. . .

ولكن الذي يعنينا هو: هل كل ما في الكتاب من خطب وأوامر وكتب ورسائل وحكم ومواعظ لأمير المؤمنين علي.؟ أم أن فيه ما ليس له. . نريد أن نعرض أمام القارئ صوراً مختلفة من الكتاب نشرحها له تشريحاً دقيقاً ثم نخرج على ما يهدينا إليه البحث. وليكن أول ما نعمل فيه المبضع الخطبة الأولى من الكتاب التي يقول الرضى في عنوانها إنها خطبة يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم، وعبارات هذه الخطبة منسجمة ميالة آخذة بعضها بحجز بعض. وهي ميتدأة بتحميد بديع يعقبه تنزيه لله عما لا يليق به، وكلام في معرفته مترتب على بعضه على مثال القضايا المنطقية، ثم ذكر للخلق من ابتدائه إلى انتهائه على مثال ما في الكتب المقدسة، وذكر لخلق آدم ومعصيته وخروجه من الجنة. وذكر لذريته في الأرض، وكلام عن الأنبياء من أبنائه حتى انتهى إلى محمد وبعثه؛ والقانون السماوي الذي نزل به، وخص من ذلك الحق، فتكلم فيه كلاماً كثيراً. ولو نظرنا إلى هذه الخطبة لوجدنا أسلوبها أقرب إلى الأسلوب التأليفي منه إلى الأسلوب الخطابي، فهي خالية من الاندفاعات الخطابية، ويظهر على عباراتها أنها وليدة التفكير، فترتب العبارات على بعضها ترتباً مطرداً على مقتضى قوانين المنطق مما لا يتيسر في الخطابة ولا يتأتى في الارتجال، وما كان علي ليخطب غير مرتجل، والتحميد الذي في أولها (الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون. ولا يحصى نعماءه العادُّون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم ولا غوص الفطن. الخ.)

هذا التحميد أشبه بالتحاميد التي تبتدأ بها الكتب. وهو يخالف التحاميد في صدر الإسلام. وهو ملحق بتنزيهات كالتي تلحق التحاميد في العصر العباسي حتى أن في العصر العباسي ما يوافقه في المعنى ويكاد يشبهه في اللفظ، ويجري معه في النسق والترتيب والروح، مما يجعلنا نرجح أنه من تحاميد ذلك العصر التي منها (الحمد لله المتعالي عن تشبيه الجاهلين، وتحديد الواصفين، وتكييف الناعتين. يوصف لا بالعرض والطول، وينعت بغير الشبح

<<  <  ج:
ص:  >  >>