للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وامتحانا وعرا اظهر مزاياه وصفاته، ففي معركة أنافارطة أوقفت هذه الصفات الخلقية الكامنة في نفسه الهجمات البريطانية المتراصة المتتالية المتتابعة كأمواج البحر.

وكان ذلك تحت قيادة رجل نحيف الجسم عصبي المزاج امتاز على أقرانه الضباط بعناده وقوة شكيمته: ذلك هو الأميرالاي مصطفى كمال الذي أقدم في ساعة من ساعات التاريخ الفاصلة فحمل عبء أفدح المسئوليات التي تواجه رجل الجندية، إذ كان الموقف جدي الخطورة، وكانت القيادة في قلق من انهيار الجبهة إزاء هجوم بريطاني حاسم، ولم يكن الوقت يتسع للمداولة وتبادل الرأي فلم يكن لديها سوى رأيين يتلخصان في نعم أو لا، فنعم كانت قبول الهزيمة وما يتبعها من تراجع وفشل وسقوط العاصمة والفناء، و (لا) كان معناها قبول المعركة في ظروف سيئة ولكن فيها الثبات والعناد والمصادمة والمقارعة حتى يتم النصر.

وكان القائد الأعلى للجبهة الجنرال فون ساندوس الألماني وهو من خيرة ضباط السواري في الجيش البروسي قد وجدها كبيرة عليه أن ينطقها لما تحتمله من المجازفة في دخول معركة تبدو خاسرة، فهو ليس من أهل البلاد، وهو يعلم جيدا أن الفن العسكري والعبقرية لا يجديان شيئا أمام ساعات التاريخ الفاصلة، وأمام القرارات الحاسمة، التي لا تصدر عن إرادة القائد الحربي، إلا بعد أن يدعمها الشعور القومي الواعي، والإحساس الوطني الوافر الذي يربط المرء بأرض بلاده وتاريخها ويجعله يشعر بأخطار المستقبل والمسئولية أمام الوطن، وفي مواجهة الأجيال القادمة.

ولذلك ألقى العبء والمسئولية على عاتق مصطفى كمال، فتولى المعركة وأعلن للقائد الألماني (أن الهاجمين لن يقتحموا الجبهة وانه يتحمل وحده مسئولية ونتائج المعركة التي تبدو خاسرة).

واعترف مصطفى كمال بان الذي دفعه لذلك هو إيمانه بأن الجنود الذين تحت إمرته سيبذلون ما في طاقة البشر للقيام بواجبهم وأنهم سيقبلون التضحية بمجرد اشتباك القتال وأنهم سيثبتون في مراكزهم، وحقت فكرة قائدهم فقد ظهر جندي المشاة في الصورة التي رسمها في مخيلته مصطفى كمال. وهكذا ذاقت تركيا طعم النصر بعد سلسلة طويلة من النكبات والهزائم. فكانت وقفة رائعة لفتت الأنظار إلى عبقرية هذا القائد حتى انه عند

<<  <  ج:
ص:  >  >>