للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قلت: بلى، أقدر إن شاء الله. . .

قال: إنه خبر لا يكاد يصدقه أحد، ولكني أحلف لك أنه واقع، وإذا شككت فاسأل القرية، أتعرف قرية (الجمالية)؟

قلت: ما سمعت باسمها إلا الآن!

قال: لقد أردت أن أبتعد عن مرابع المصطافين ومواطن الازدحام إلى بلد أطلق فيه نفسي على سجيتها، لا أقيدها بقيد عادة ولا واجب مجاملة، فأممت بحيرة (العتيبة)، ثم صعدت (جبل عيرام)، حتى بلغت هذه القرية المختبئة في كنف واد عميق لا يصل البصر إلى قرارته، يجري في بطنه نهر (العامون) متحدراً هائجاً يقفز من صخرة إلى صخرة، فيكون له دوي وخرير، ويعلوه الزبد فتراه من خلال الأشجار، وأنت في القرية، كأنه البلور المذاب، إذا كنت قد رأيت في زمانك بلوراً مذاباً؛ يحمي هذا الوادي المسحور جبلان عاليان تنطح ذراهما النجم، وقد لبست سفوحهما وحدورهما ثوباً من الشجر أخضر، توارت خلاله هذه القرية. . .

واتخذت فيها داراً سلخت فيها شهراً من شهور الصيف، لم أعرف السعادة إلا فيه، ولم أدر حتى عشته ما لذة العيش وما الاطمئنان، فلقد كنت أغدو مع النور فأصعد في الجبل أحيي الشمس البازغة حين تشرق على الدنيا، وأهبط الضحى إلى بطن الوادي فأتخذ لي مكاناً على صخرة عالية، أو أقعد على حافة النهر الفياض. وكنت في أكثر الأيام أضع طعامي في سلة وأرتاد المرابع، فحيثما استطبت المكان أقمت. وكنت أحمل معي كتاباً أقرأ فيه مرة، وفي مصحف الكون أخرى، فأمتع النظر بأعجب المشاهد وأبهى المرائي، ثم أروح العيشة إلى داري، وقد طفحت نفسي بصور الجمال، وفاض جسمي بالعافية. . .

. . . حتى جاء ذلك اليوم الذي صب في كأس حياتي العلقم!

لقد صعدت في الجبل على عادتي حتى جاوزت حدود القرية، وقاربت ينبوع (البارة)، وبلغت الغابة المهجورة التي تطيف به، فما راعني إلا الحجارة تتساقط حولي كأنها المنجنيق، تنزل دراكاً نزول رصاص الرشاشات، فحرت لحظة، ثم وليت هارباً أعدو ما أطقت العدو، حتى وصلت إلى صخرة فاحتميت بها، فجعلت أنظر: ما خبر الحجارة! فأسمع قهقهة مرعبة. . . فأحسب أنها الجن تروعني. . . ثم أرى امرأة تخرج من بين

<<  <  ج:
ص:  >  >>