للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ملء جفوني، فما أنا ممن تهمهم هذه الأمور، إذ لست يهودياً). ولقد أغراني مرحه وخفة روحه، على الرغم من فقره المدقع، أن أعرف شيئاً من حياته؛ فقلت ملتمساً منه تلبية طلبي فأجاب: (بكل سرور يا مولاي، ولكن على شريطة أن نشرب قليلا لندفع عن أعيننا النعاس. لنشرب قدحا آخر قبل أن يهجم الكرى على أجفاننا. . . آه. . ما أجمل منظر القدح وهو ملآن!

(يجب أن تعلم إذن أني أنحدر من أرومة طيبة وأن أسلافي قد أحدثوا بعض الضجة في العالم، ذلك لأن أمي كانت تبيع (المحار) وأن أبي كان طبالاً. ولقد قيل لي إنه قد كان في عائلتي أيضاً بعض البواقين. فهل تراني بعد هذا مبالغاً إذا قلت إن قليلا من الأشراف يضاهونني في الحسب والنسب؟ ولما كنت الابن الوحيد لوالدي فقد أرادني، على أن أكون طبالاً مثله، وعلى الرغم مما كان يبذله معي الوقت والأناة، لتعليمي الأناشيد العسكرية، لم أتقدم خطوة واحدة، ذلك لأني لم أكن ميالا إلى الموسيقى، فانخرطت في الجيش وأنا في الخامسة عشرة من عمري. ولم ينقض يوم واحد حتى تبين لي أن كراهيتي لحمل البندقية لم تكن لتقل عن كراهيتي لدق الطبل، ذلك لأن الطبيعة قد أعدتني لأكون سيدا لا مسود. إن وجودي في الجيش يحتم علي إطاعة أوامر رئيسي التي يفرضها علي، وليست أوامره إلا ظلا لأهوائه ورغباته، وإنه لمن الأجدى على الشخص أن يطيع رغباته لا رغبات سواه.

(لذلك لم يمض وقت طويل حتى أصبحت ضيقاً بحياة الجندية شديد المقت لها فعولت على الاستقالة، ولكن الرئيس رفض استقالتي، لأني كنت طويل القامة مفتول العضل، فاسودت الدنيا في عيني ولم يبق أمامي إلا الاستنجاد بوالدي فبعثت إليه برسالة، كلها شكوى واستعطاف، طلبت فيها منه أن يجمع المبلغ الكافي لإخراجي من الجندية ولكن الرجل الطيب القلب كان شديد الولع بالخمر، كما كنت أنا حينئذ، (في خدمتك يا مولاي) وأن الذين شأنهم لا ينتظر منهم أن يدفعوا رسم التسريح من الجندية - وقصارى الحديث، لم يرد والدي على رسالتي البتة، ما العمل إذاً؟ قلت لنفسي: لما كنت لا أملك المال الكافي لشراء حريتي فما علي إلا أن ألتمس وسيلة أخرى وهي الهرب، وفعلا هربت.

وهكذا تخلصت من الجندية وبلائها فبعت ثيابي العسكرية واشتريت أسوأ منها وسلكت ما أمكن سبلا غير مطروقة. ففي أمسية يوم من الأيام، بينما كنت أدخل إحدى القرى، إذ

<<  <  ج:
ص:  >  >>