يقول الأستاذ الجليل (ن)(كلام الذي أوفدهم ابن ماء السماء إلى سلطان فارس مزور مختلق لم يقله النعمان ولا جماعته ولن يستجرئوا على مثله)
ونحن نقول إن العربي لا يستجرئ على إعلان حميته وإبائه إلا لما أودع الله فيه صفات الأنفة العزيزة والكبرياء الرفيعة؛ حتى ولو كان في الأطمار والأسمال خاوي البطن عاري الشوى والمنكبين من الطوى. . . وهو على عنجهيته ولوثته بصير بمواطن الكلام، عليم بمرامي السهام. . .
وإني على ما كان من عنجهيتي ... ولوثة أعرابيتي لأديب
وقد انتقى النعمان لوفد كسرى جماعة وظنهم بميزانه، وأنزلهم أقدارهم التي يعرفها عنهم؛ وتوسم فيهم - لطول معرفة، أو حسن سماع، أو ص دق جوار - حسن الجواب ولطف المخرج من مضايق الكلام. ولم يخترهم من أهل الغفلة والبله، والسرعة والحمق؛ وتلك حسنة أخرى من حسنات النعمان، وفضيلة من فضائله؛ فهو هنا محسن يحسن اختيار الرجال، ويتنخل أعضاء الوفود الذين يصح أن توكل إليهم المهمات وتلقى عليهم التبعات. . .
إذا كنت في حاجة مرسلاً ... فأرسل حكيماً ولا تُوصه
وفعلاً وحقاً وصدقاً، لم يكذب النعمان قول الشاعر الإسلامي فأرسل مع الوفد حكيماً عربياً عرف بالصدق في الكلام وأشتهر بالقولة السائرة والحكمة المرسلة، وهو أكثم بن صيفي، فلم يعد أن يكون حكيماً في مقام المفاخرة. وتلك لطيفة من لطائف وفود العرب على كسرى؛ فقد كانوا يستطيعون أن يكونوا كلهم أبواقاً - أو بوقات - يضربون على فضائلهم، ويغنون على (ليلياتهم). . . ولكنهم قسموا العمل، ووزعوا الخطة وأحكموا الطريقة في هذا المؤتمر الذي يشبه مؤتمر (كذا) في بلاد (كذا) في عصرنا الحديث. . .
فأكثم بن صيفي حكيم ينطق بقدر، ويزن الكلام إذا نطق، فليس ثرثارة يخطب، ولا مهذاراً يكثر؛ بل يرسل الحكمة تلو الحكمة، والكلمة الصادقة أثر الكلمة، ويوجه الكلام - على حد البلاغيين - فيأخذ منه كسرى ما يأخذ لنفسه ويدع ما يدع. والحكيم في ذلك لم يغلط في قول، ولم يعنف في كلام، ولم يجهل أقدار الملوك، ولم يخرج عن جادة الاعتدال. فكيف