للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

خوالجه وأدق (لوازمه)!

هذا اللون من الدراسة يستهويني أكثر من السِّير التي تتناول حياة الأشخاص بالسرد، وتجمع حولهم كل المعلومات التي لابست هذه الحياة. ذلك أن اللون الأول يمنحني حياة آدمية نابضة، واللون الثاني يضع بين يدي معلومات في حيز من الزمان والمكان. وكلا اللونين ضروري للتراث الفني، ولكن أولهما آثر عندي لميزته تلك.

وفي كل ما كتب العقاد عن الشخصيات تتضح هذه الميزة، وإنها لتنضج في كتب الدراسة الكاملة أمثال: (ابن الرومي) و (سعد زغلول) و (تذكار جيتي) و (هتلر في الميزان) ثم تبلغ أقصى درجات النضوج في الكتب الثلاثة الأخيرة التي تقدم الحديث عنها حين يجتمع إلى عمق الدراسة وقوة المنطق، ذلك اليسر العجيب وتلك الحركة السريعة في التفكير وفي الأداء على السواء.

و (شاعر الغزل) - على صغره - نموذج كامل لهذا اللون الحي من الدراسة الناضجة؛ ففي خلال ثلاث وأربعين ومائة صفحة فقط من قطع الجيب، ينتفض (عمر بن أبي ربيعة) من بين ركام الأجيال، حيَّا نابضاً شاخصاً بسمته وزيه ومزاجه وفنه؛ وينبعث في حياته على الورق صورة مكتملة لحياته على الأرض؛ حتى ليخيل إليك أنك وشيك أن تلقاه وتصافحه وأن تجلس إليه وتبادله الحديث!

وذلك هو الإبداع! الإبداع الذي يصور (عمر بن أبي ربيعة) في هذا الحيز الصغير، كما لم يصور قط في الأدب العربي كله بلا نزاع.

والعقاد في عملية البعث والإحياء لا يأتي بحادثة واحدة ليست معروفة في سيرة هذا الشاعر، ولا بقصيدة أو بيت أو شطرة لم ترو من قبل له، ولا بخبر من أخباره أو أخبار عصره لم يدون في الكتب المتفرقة؛ ولكنه يصنع من هذه الخامات البسيطة المعروفة مادة أخرى جديدة، ويهيئ منها هيكلاً قائماً للعصر وللبيئة وللشاعر، ثم ينفخ في هذا الهيكل من روحه، فإذا هو خلقة سوية، تحيا وتتنفس كما كانت تحيا وتتنفس من قبل، في هذه الدنيا الفانية!

وإنه ليهمني هنا أن أبرز هذه الحقيقة، فنحن في مستهل نهضة في البحث العلمي والفني. ولكنني لاحظت على الإنتاج الجامعي الحديث بلا استثناء أنه يتجه إلى السرد والجمع

<<  <  ج:
ص:  >  >>