إذا كتبت خطاباً في المساء فأتركه بلا تظريف، لتَسهُل مراجعته في الصباح، ولتبقى فرصة للحذف منه أو الإضافة إليه، فمن المؤكد أن للرأي موجات تختلف باختلاف الأوقات. وقد تُنكر في بياض الصبح، بعض ما كتبت في سواد الليل. وأنت عن تموُّجات رأيك مسئول.
كذلك أصنع في خطاباتي ومقالاتي لهذا العهد، ولم أكن أصنع ذلك من قبل. وإن زمناً يكفُّ من جموحي لهو ألأم الأزمان!
ما كنت أعرف الفرق بين التسويد والتبييض، ولا كنت أستبيح معاونة الصنعة على مبالغة الطبع، وكنت أعجب حين أسمع أن في الكتَّاب من ينسخ مقاله مرات قبل أن يطمئن إلى صلاحيته لمواجهة القراء.
كان رأيي أن جري القلم في القرطاس هو جري الجواد في الميدان. . . وللقلم أن يتلفت قبل إصابة الهدف، إن كان للجواد أن يتلفت قبل بلوغ الغرض. . . ومن المحال أن يتلفت الجواد حين ينطلق في ميدان السباق، أو ميدان القتال.
وهذا المذهب في رياضة القلم هو الذي عرَّضني لكثير من الجراح، لأني لا أملك صده حين ينطلق، وهل يملك الجواد مجانبة العثرات حين ينطلق؟
فما بال الأقدار تروضني بعد الجموح، وتفرض عليَّ أن أتلَّفت ذات اليمين وذات الشمال وأنا أجري في ميدان البيان؟
وما هذا الذي أعاني من زماني؟
أليس من المزعج أن أصبح من مخاطر القلم في أمان، لأن الظروف توجب أن يراعي قلمي أشياء لا يراعيها الجواد حين ينطلق في الميدان؟
وما قيمة الحياة الأدبية إذا خلت من المخاطر والمهالك والحتوف؟
أنا لا أعدّ الكاتب فارساً إلا إذا استطاع بكل سطر، أو بكل حرف، أن يعرّض قراءه إلى الاشتباك في حروب مع معاني والآراء والأهواء.
فأين أنا مما أريد؟
وأين الفرص التي تسمح بأن أجرّد من قلمي مِشرطاً يرفع الغشاوة عن أعين أبناء الزمان؟