والمصادر. ويختلف الباحثون في النقد وفي استخلاص الحقائق على حسب اختلافهم في الفهم والتفسير والاستنباط. وأحياناً يضع الباحثون في التاريخ افتراضات مختلفة لمحاولة فهم حركة تاريخية مهمة مثل حركة النهضة في إيطاليا أو الثورة الفرنسية. وأحياناً يختلف الباحثون في تقدير معنى الحوادث من ناحية السياسة أو الخلق. وأحياناً يكتبون متأثرين بروح العصر السائدة مثل حركة الانقلاب الصناعي أو نمو الديموقراطية في أوربا؛ إنما كل هذه الاختلافات ضرورية لأنها تقدم آراء ووجهات نظر مختلفة عن عصر معين؛ وهي تعطي للتاريخ الحركة والحياة، وتجعل البحث التاريخي مستمراً بنشاط. وعلى العكس، عدم الاختلاف بسبب الجمود والركود. وثالثاً مطابقة التاريخ للواقع، وبعده عن التمييز والأهواء والنوازع المختلفة؛ فلا تعتبر تاريخاً صحيحاً الكتابة التي يطعن فيها مسيحي على المسلمين في زمن الحروب الصليبية؛ أو العكس، فالكتابة التي تخدم غرضاً معيناً قد تعتبر تاريخاً لنوع من التفكير أو النوازع الإنسانية، وإنما لا يمكن أن يعتبر ما جاء بها معبراً عن الحقيقة التاريخية بالنسبة لما تناولته من الموضوعات.
وبمعنى آخر يمكننا أن نقول إن قيمة التاريخ المكتوب تتحدد بناء على ملكات الباحث في التاريخ واستعداده، وبناء على مدى ثقافته، وعلى درجة إلمامه بطريقة البحث التاريخي. وكثير من كتب التاريخ تعتبر من أمتع ثمرات العقول، لنضوج عقلية المؤرخ، وخبرته الوطيدة، ونجاحه في إعطاء وحدة جامعة واضحة، بعكس الكثير من كتب التاريخ أيضاً التي يكتبها من لا يفهم التاريخ، ومن لا يملك ملكة النقد؛ فلا تزيد عن مجرد معلومات موضوعة بين دفتي كتاب. ومثل هذه الكتب غير جديرة بأسمائها، وهي قد لا تساوي الورق الذي طبعت عليه.