أهلاً للجد وأهلاً للاضطلاع بالأمانة. ولا تناقض بين هذا وبين عزفه على البيان، واختراعه الجديد من الألحان، بل هذا حجة له على صدق العظمة فيه، واقتداره على كل ما يقتدر عليه العظيم
الحياة تأثير وتعبير. وماذا بعد هذين؟ بل ماذا في التأثير نفسه إن لم يتممه التعبير؟
فالعبقرية التي تتمم الحياة وتعطيها معناها ليست بالمنزلة الهينة بين منازل الإنسانية، وليست بالنافلة بين النوافل ولا باللغو الذي يكون أو لا يكون على حد سواء
قلت في ذكرى من ذكريات الموسيقار المصري النابغة سيد درويش إن (الأمة الكاملة عجزت مع هذا عن قضاء حق الرجل الفرد فمات بينها وهي تتعلم أنها أصيبت من فقده بمصيبة قومية، ولم تبال حكومتها أن تشترك في تشييع جنازته وإحياء ذكره كما تبالي بتشييع جنازات الموتى الذين ماتوا يوم ولدوا والمشيعين الذين شيعتهم بطون أمهاتهم إلى قبر واسع من هذه الدنيا يفسدون من أجوائها ما ليست تفسده العظام النخرات والجثث الباليات. . . أنقول مع هذا؟ بل ما لنا لا نقول إن الرجل قد أهمل في حياته وبعد مماته ذلك الإهمال القبيح لأجل هذا؟ أو ليست آدابنا هي تلك آداب هذا الشرق الجامد الذليل الذي تعاورته الرزايا وران عليه الطغيان؟ أو ليست آداب هذا الشرق المسكين تعلمنا أن العزيز العظيم من يسيء إلى الناس، وأن المهين الحقير من يتوخى لهم الرضى ويوطئ لهم أسباب السرور؟ أو ليس من شرع الاستبداد وسنن آدابه أن يكون الرجل عظيما لأنه يطغى ويكسر النفوس ويحنى الظهور ويعفر الوجوه؟ أو ليس هذا أعظم ما رأينا من العظمة في هذا الشرق الآفل منذ علم أبناؤه أنهم صغراء حقراء، فلن يكون الذي يتقدم إليهم بالرضى والسرور إلا أصغر منهم صغراً وأحقر منهم حقارة؟ بلى، وا أسفاه! إن دغائن الاستبداد ما برحت عالقة فينا بدخيلة السرائر، ننفضها فلا تنتفض إلا ذرة بعد ذرة، ونزن المنفوض منها فإذا هو لا يزيد في الهباء ولا ينقص راكد ذلك التراث. . .)
وقد مضت قرابة عشرين سنة بعد وفاة سيد درويش ونحن لم نتقدم خطوة في هذا المضمار. فلا تزال الأصداء الموسيقية ذيلاً من ذيول الفراش عند جمهرة السامعين. . . أتشك في ذلك؟ استمع إليهم وهم يصرخون ويزعقون بين لمحة وأخرى، ثم حاول أن توفق بين هذا النشوز الصادع وبين شعور السامع بانسجام الأنغام وائتلاف المعاني والأوزان. إن