حينئذ وجدتني على الرغم منى عانى الوجه له مستغرق الفكر فيه، يتردد في خاطري ما يردده الحيوان والشجر من تقديسه وتمجيده. ثم قر في نفسي أن بيني وبين هذه الشجرة القريبة وذلك الرجل البعيد قرابة شابكة، لأني شعرت أن بيني وبين من يسقيه النيل إخاء من رضاع الماء كما يكون بين الولد والوالد إخاء من رضاع اللبن! ووضح في ذهني الآن معنى ما يقول الناس من أن علاقة الفرد بالأمة هي علاقة الأخوة، وعلاقة الأمة بالوطن هي علاقة الأمومة. وكما يتجه في لحظات الصفاء الروحي فكر الأخ الممنوح إلى أخيه المحروم، اتجه فكرى في هذه الجلوة النفسية إلى ثرانا المكروب وأكبادنا الحرى في صحارينا الشرقية والغربية. فقلت لنفسي وأنا أردد الطرف الساهم في تيار النهر الجارف وداراته المدومة ولججه الفائرة: كيف خف على ضمائر ذوي العلم والرأي في وزارة الأشغال أن يدعوا هذا الفيض الحيوي العظيم يتدفق أربعة أشهر في لهوات النحر الأبيض دون أن يحبسوه بحيلة من حيل الفن الهندسي ليحيوا به موات الناس والأرض! لو كان لمهندسي الري في بلدنا مطمح تُشرف نفوسهم عليه غير أن يكونوا موظفين يسجلون المناسيب ويضبطون المناوبات ويتعهدون الجسور ويترقبون العلاوات، لوصلوا ما انقطع من أبحاث (ولكوكس) و (سرى) حتى يبلغوا بها الغاية التي يكون بعدها كل سها واحة وكل تل غابة. ولكن مهندسينا كسائر أهل الفكر فينا لا يعملون إلا للعيش؛ فإذا ضمنوه هدهدوا كسلهم الرخي اللذيذ على كرسي العمل الدوار في المكتب، أو على كرسي الهضم الهزاز في المنزل!
قالت نفسي وقد ساءها أن اتهم العلماء والمفكرين بقلة الوفاء بعهد الضمير: لعلهم لا يوفون بعهود الوطن والفكر إلا إذا قدمت الأمة إليهم العرائس كما كانت تقدمها إلى النيل من قبل، فقلت لها: لا جرم أن العرائس أو الجوائز هي أقوى الحوافز لقرائح العلماء والأدباء والفنانين، لأنهم خُلقوا لأنفسهم قبل أن يخلقوا للعلم والأدب والفن، فإذا لم يجدوا الجزاء على ما يبذلونه للناس ضنوا به أو أنزروه، ولكن النيل خلق لغيره كما يخلق النبي المرسل والزعيم الملهم؛ فوجوده أن يفيض، وعمله أن يعطي. ومن ذلك كان أصدق خلاله الوفاء والكرم، فهو منذ اتصلت منابعه بعيون السماء، وانشقت مجاريه في صدور الأرض، لا