لآراء الغربيين في أبن خلدون وأثره في مؤلفات أوربا في العصور الوسطى.
وقد حرص الأستاذ عنان في القسم الأول من كتابه على أن يصور المؤرخ الإسلامي الكبير تصويرا دقيقا تلمح فيه تفاصيل الملامح، ودقائق الأوصاف فتحس وأنت تقرأ وصفه أنك حيال رجل حي ينبض قلبه بأقوى المشاعر وتتحرك نفسه مع عوامل الحياة المضطربة حوله، ويفكر في كل مواقفه تفكيرا متناسقا متوافقا منطقيا مع نفسيته.
وانه لمن الأمور المعتادة في كتابة المترجم أن يقع الكاتب في خطأ المبالغة إذا كان بمن يترجم له، فان الكاتب إذا كان معجبا بالرجل الذي يصف حياته كان من السهل عليه أن يؤول كل أعماله وكل آرائه تأويل المعجب. ولكن الأستاذ عنان كان فوق هذه المرتبة، فان إعجابه بعقل ابن خلدون وقوة تفكيره لم يحمله على أن يتغاضى عن وزن مسلكه الخلقي في حياته، فكان في حكمه عليه من هذه الناحيه قاضيا غير محاب، لا يحمله الإعجاب على الإغراق والمبالغة. ومن ثم نراه يصفه بعد النقد والتمحيص وصفا فيه اللوم إذا كان في مسلكه ما يدعو إليه فيقول مثلا:(فكانت كسابقتها دليلا على ما تجيش به نفسه من الأثرة ونكران الصنيعة وانتهاز الفرص السانحة مهما كان انتهازها ينافي الوفاء والولاء والعرفان. كان ابن خلدون ينطق في خططه وأعماله عن احتقار عميق للعاطفة والأخلاق المرعية، وكان يسيره مثل ذلك الروح القوي الذي اعجب به ميكافللي فيما بعد الخ) غبر أن الأستاذ عنان وأن لم يحمله الإعجاب على المبالغة لم ينس أن يعطي ابن خلدون حقه في التقدير الفكري فكتب فصلا بديعا في وصف عزلته ومؤلفاته وآخر في وصف ولاية للتدريس والقضاء. ويمكن أن يعتبرا آية من آيات التأليف الحر والبحث الدقيق. ثم ختم بحثه بفصل بين فيه أثر ابن خلدون في التفكير المصري صور فيه صورة واضحة للرجل والعصر حتى ليكاد الإنسان يرجع حيا إلى ذلك العصر، ويحس ما كان الناس يحسونه فيه من تنازع في العواطف بين صديق معجب وحاسد كاره وناقد متجن وهو في كل ذلك يبين الأسباب التي تحت المظاهر ويرد الأمور إلى عللها وأساسها. وقد عاد الأستاذ عنان بعد تحليل شخص ابن خلدون إلى تحليل آرائه فختم بحثه بالكتاب الثاني وهو في وصف تراث ابن خلدون الفكري والاجتماعي، فبين مجمل آرائه ووجهة نظره فيها، ثم بحث تطور آرائه الاجتماعية فتتبعها فيما كتب المؤلفون من قبله، ثم عقب بما كتب من بعده في الموضوع