سمعته أمه، وفطنت لدائه، ولكنها تغافلت عن همه، ومشيا يلفهما الصمت، حتى اعترضهما ظبي نعطو إلى سلمة فوق رابية، رآه مقدودا كتمثال، ولمح في جيده وعينه ليلاه، فانطلق لسانه من عقاله، وجهر بصوته:
يا أمتا! أخبريني غير كاذبة ... وما يريد مسول الحق بالكذب؟
أتلك أحسن أم ظبي برابية؟ ... لا، بل حبيشة في ظني وفي أرب
وماذا تخبره أمه؟ صبت عليه ذنوبا من الملامة، وقرعته على خوره واستخذائه، وحذرته أن يتمادى في عمايته، ثم فكرت في صرف هواه إلى بنت أختها، التي عمدت تزينها، وتبدع في تجميلها علها تقع من قلبه موقعا، ولكن حب حبيشة كان قد واتى والنفس فارغة فاستحكم، وان غابت عنه تركت ربعه خاويا، وقبله وارياً
إذا غيبت عني حبيشة مرة ... من الدهر لم أملك عزاء ولا صبرا
وكان عبد الله ككل الشعراء، وضع قلبه على طرف لسانه، أحب فشبب، ولذ له ذلك، فلقي أهلها منه كل بلاء، وعملوا كيدهم لصرفها عنه، فأرادوها على أن تعده موعدا، وفيه تصارحه بزهادتها فيه، وكراهتها إياه، وهم عن جنب منها يسمعون. فلما أقبل انخرط اللؤلؤ متهالكا، والتفتت حيث أهلها كامنون، ففطن لنظرتها، ورجع من حيث أتى، وقال:
لو قلت ما قالوا لزدت جوى بكم ... على أنه لم يبق ستر ولا صبر
ولم يك حبي عن نوال بذلته ... فيسليني عنه التجهم والهجر
وما أنس م الأشياء لا أنسى دمعها ... ونظرتها حتى يغيبني القبر
وظل على حبه، يقنع باللمحة، ويتعلل بالخيال حتى وقعت الوالقعة.
- ٣ -
وجه النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بعد فتح مكة إلى ما حولها من القبائل يدعوهم. إلى الله عز وجل فنزل ببني جذيمة من عامر ولم ينزلوا على رأيه، فأسر من استطاع منهم، وحكم السيف فيهم وكان من أسراه (عبد الله بن علقمة الكناني) صاحب حبيشة، ولما هموا ليقتلوه استوقفهم لحاجة في نفسه وطلب من آسره أن ينزل معه إلى أسفل الوادي، حتى يودع ظعنه، ولما كان منهن قاب قوسين، نادى بأعلى صوته: أسلمي يا