يا هند هل لك في شيخ فتى أبدا ... وهل يكون شباب غير فتيان
وهأنت ترى أن هذا التعريف ينطبق على الشعبي كل الانطباق
دعا الحجاج بالشعبي وأفضى إليه برغبة أمير المؤمنين، فوقع منه ذلك بموقع، فبالغ في شكر الأمير وأطال الدعاء للخليفة
وقد جهزه الحجاج بجهاز حسن، وأنفذ معه كتاباً إلى عبد الملك يثني عليه فيه. وسار الشعبي حتى بلغ دمشق، ووقف بسدةِ الأذن، وقال للحاجب: استأذن لي في الدخول على أمير المؤمنين. وكان الحاجب اقتحمته عينه لنحوله وقماءته، فقال: ومن تكون أنت؟ فقال: عامر الشعبي. فقال الحاجب: حياك الله يا فقيه العراق! ووثب عن كرسيه وأجلسه عليه، ودخل مسرعاً إلى الخليفة، ولم يلبث أن خرج ودعاه إلى الدخول في رفق وأدب
ودخل الشعبي حتى إذا واجه عبد الملك سلم عليه بالخلافة فرد عليه السلام وهش له وبش به! وأومأ إليه بقضيب في يده أن اجلس. فجلس على يساره
وعبرت فترة أطرق فيها عبد الملك عابساً متجهماً! ومن الآداب السلطانية المأثورة أن الملك إذا حضره سُمًّاره ومحدثوه لا يحرك أحد منهم شفتيه مبتدئاً. ولم يكن الشعبي يجهل ذلك، بل لا يجهل أن عبد الملك أول خليفة منع الناس من الكلام، وتقدم فيه وتوعد عليه. ولكن اعتداد الشعبي بنفسه، وإدلاله بمنزلته من الخليفة، وتعجله إدخال السرور عليه دعاه أن يسأل غير محتشم: ما بال أمير المؤمنين؟ فرفع عبد الملك رأسه إليه - متجاوزاً عن هفوته - وقال ذكرت يا شعبي قول زهير:
كأني وقد جاوزت سبعين حجة ... خلعت بها عني عذار لجامي
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يُرْمي وليس برامي
ولو أنني أُرْمي بنبل رميتها ... ولكنني أُرمي بغير سهام
على الراحتين مرة وعلى العصا ... أنوء ثلاثاً بعدهن قيامي
وبهذا الكلام وجد الشعبي مجاله الذي يصول فيه ويجول، فهز رأسه قائلاً: ليس الشأن كما قال زهير يا أمير المؤمنين، ولكن كما قال لبيد:
كأني وقد جاوزت سبعين حجة ... خلعت بها عن منكبيّ ردائيا