للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ثم مضى في هذا العمل بعد أن رجع إلى مكة، فكان يرعى الغنم لأهلها على قراريط يأخذها منهم، كما روى هذا الإمام البخاري في صحيحه.

وكان في هذا الطور يميل إلى شيء من اللهو البريء، وتدركه عناية الله فيه كما تدرك كل شاب موفق، وقد حكى عن نفسه في ذلك بعد رسالته فقال: لما نشأت بُغَضت إليَّ الأوثان وبُغِضَ إليَّ الشعر، ولم أهمُّ بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين، كلُ ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك، ثم ما هممت بسوء بعدهما حتى أكرمني الله برسالته، قلتُ ليلة لغلام كان يرعى معي: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمرَ كما يَسمر الشباب، فخرجت لذلك حتى جئت أول دار من مكة أسمع عزفاً بالدُفوف والمزامير لعُرْس بعضهم، فجلست لذلك فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا مسُّ الشمس، ولم أقض شيئاً، ثم عراني مرّة أخرى مثلً ذلك.

الطور الثاني: فلما بلغ صلى الله عليه وسلم اثنتي عشر سنة أخذ يعمل في التجارة مع عمه أبي طالب، فسافر معه إلى الشام للتجارة وهو في هذه السن، ولما حذق التجارة انفرد بنفسه عنه. وكان في مكة سيدة تاجرة ذات شرف ومال تدعى خديجة بنت خويلد من بني أسد بن عبد العزي بن قصي، وكانت تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه، فسمعت عنه من الأمانة والصدق ما رغبها في أن تستأجره للتجارة في مالها، وكانت سنه في ذلك الوقت خمساً وعشرين سنة، فاستأجرته ليخرج في مالها إلى الشام للتجارة، على أن تعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره، فسافر إلى الشام مع غلامها ميسرة، فباعا وابتاعا وربحا ربحاً عظيماً، فسرت به تلك السيدة الكريمة، وكان زوجها قد توفي ولم تتزوج بعده فأرسلت إليه تخطبه لنفسها وكانت سنها نحو الأربعين، فقام مع أعمامه حتى دخل على عمها عمر بن أسد فخطبها له منه عمه أبو طالب، فزوجها عمها له، وصارت بهذا زوجه خمساً وعشرين سنة، وكان يعمل في مالها ويأكل من نتيجة عمله، على إنها ما كانت تضن عليه بشيء منه.

الطور الثالث: وكان في نفسه صلى الله عليه وسلم ميل إلى عبادة ربه، وإلى العزلة عن ذلك المجتمع الموبوء برذائل الجاهلية، فلما رزقه الله بتلك الزوجة الكريمة، وصار له مال يساعده على قضاء حاجة نفسه من عبادة ربه، كان يقصد كل سنة في شهر رمضان إلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>