احتاج أن ينفذ إلى يثرب من يقرئ المسلمين بها القرآن ويعلمهم ويثقفهم في الدين. وكانت هذه فاتحة ميمونة لانتشار الإسلام في يثرب على صورة جدية وفي نطاق واسع
وكان مقام المسلمين في يثرب طيباً محموداً لا أذى فيه ولا مشقة، فغير معقول ألا يفكر النبي في اتخاذ يثرب مهجراً للمسلمين الذين يعانون الأمرين في مكة، ولنفسه أيضاً إذا كان لابد من ذلك ولا معدى عن ذلك. . إن التفكير في ذلك هو تفكير يبعث عليه ويوحي به واجب الدفاع عن النفس. يدل على ذلك أن النبي في العام التالي - لما قدم مكة عشرات من مسلمي يثرب - لقيهم واقترح أو طلب أن يعقد مع مسلمي يثرب حلفاً دفاعياً لرد عدوان المشركين. وقد تم له ما أراد وعقدت بيعة العقبة الثانية وهي أول تدبير عملي في سبيل الدفاع عن النفس. وقد أزعج خبرها قريشاً جداً فاضطربت وأشفقت وذهبت تسعى لتستوثق من الخبر، فإن صحة الخبر معناها ذهاب كل أمل في التغلب على النبي. . . وقد بلغ من جزعهم من هذا الحلف وصحة تقديرهم لعواقبه المحققة أن قريشاً ائتمرت بالنبي تريد قتله ودبرت ذلك فعلا وأحكمت التدبير كما هو معروف مشهور، فأدى ذلك إلى التعجيل بهجرة النبي نفسه
وقد كانت الهجرة في سبيل الله وللدفاع عن النفس ولكنها أدت إلى أمور شتى. فقد كان النبي في مكة حسبه أن يتقي أذى قريش ويتجلد ويصبر على عنتهم واضطهادهم، فلما هاجر لم يبق لمثل هذا الصبر مسوغ، ولا بالمسلمين إليه حاجة، وقد كثروا وصارت لهم قوة من جموع الأنصار والمهاجرين معاً. ففي وسعهم أن يردوا الأذى بالأذى ويقابلوا العدوان بالعدوان. ثم إن كثرة المسلمين في يثرب جعلتهم جماعة يجب فضلا عن تثقيفهم في الدين تنظيم أمورهم والنظر في مصالحهم وإقامة علاقاتهم بغيرهم على قواعد مرضية. وقد بدأ التشريع الإسلامي بعد الهجرة، وبدأت كذلك الحروب باللسان ثم بالسلاح، وبدأ التعرض لتجارة قريش. ولا حاجة بنا إلى التفصيل فإنه تاريخ معروف؛ ويكفي أن نقول إن الهجرة أتاحت للمسلمين أن يكونوا أمة، وأن ينتظموا كما تنتظم الأمم، وأكسبتهم مركزاً تسنى لهم بفضله أن يتحكموا في مكة اقتصادياً وحربياً أيضاً؛ وقد انتهى الأمر بالفعل بفتح مكة وإعلاء كلمة الله
ويكفي للدلالة على ما كان للهجرة إلى يثرب من قيمة في التاريخ الإسلامي أنه لما أريد بعد