وسائر الأمور التي تتصل بحياة الأمة اتصالا ماساً، فجعل فيها هذا الازدواج وهذا التناقض. اجتمع باثنين من المثقفين بالثقافة الإسلامية والثقافة الغربية، تر الثاني ينكر المكتبة العربية جملة، ويجحدها مرة واحدة، وينبزها بالكتب الصفراء والثقافة الرجعية الجامدة، لا يدري أن المكتبة العربية أجل تراث علمي عرفه البشر وأعظمه، وأنها رغم ما أصابها من نكبات: منها نكبة هولاكو حين ألقى الكتب في دجلة حتى اسود ماؤه - فيما نقلوا - من خبرها، ونكبة الأسبان حين أحرقوا الكتب وفيها حصاد أدمغة البشر قروناً طويلة، ولبثوا ليالي يستضيئون بنورها إلى الصباح؛ ورغم ما أضاعه الجهل والإهمال لا تزال مخطوطاتها تغذي المطبعات في الشرق والغرب من خمسين سنة إلى الآن دأباً بلا انقطاع، ولا يزال فيها ما يغذيها خمسين سنة أخرى في ناحية من نواحي التفكير وفي كل فرع من فروع العلم
وتجد الأول ينكر العلم الحديث كله ويجحده بجملته ويعيش اليوم بعقل جدّه الذي كان قبل ثلاثمائة سنة، فلا علم عنده إلا علم العربية والدين والمنطق، ولا أدب إلا الأدب العربي، ولا كتب إلا هذه الحواشي والشروح التي لم تصلح أبداً حتى تصلح اليوم، والتي لا يتصور العقل طريقة في التأليف أشد عقماً منها، إذ تذهب ثلاثة أرباع جهود المدرس والتلميذ في فهم عبارتها وحل رموزها والربع الباقي في فهم مادة العلم التي لا يخرج منها التلميذ على الغالب بطائل
فرجالنا المثقفون وعلماؤنا بين رجلين: رجل درس الثقافة الإسلامية، ولكنه لم يفهم شيئاً من روح العصر، ولا سمع بالعلم الحديث، ورجل فهم روح العصر ودرس العلم الحديث، ولكنه لم يدر أن في الدنيا شيئاً اسمه ثقافة إسلامية. . . فمن أي هذين الرجلين ننظر النفع؟ لا من هذا ولا من ذاك، ولكننا ننظر النفع من الرجل الذي عرف الإسلام وعلومه، وفهم روح العصر وألم بالعلم الحديث، هذه الطبقة المنتظرة من العلماء، هذه الحلقة المفقودة هي التي يرجى منها أن تقوم بكل شيء، وهي التي سينشئها الأزهر المعمور ودار العلوم العليا، والمدارس التي شيدت لتجمع بين الثقافتين كالكلية الشرعية في بيروت، ودار العلوم في بغداد، وبنشئها من يتخرج في المدارس العليا والجامعات ويكون ذا ميل إلى الدين، ويكون له إلمام بعلومه