للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ليالي.!

واسألي النهار: ألا أغتسل بأول قطرة من ضياء فجره إلى آخر قطرة من شفق غروبه، وأسير معه في موكب الحياة العام أدبُّ بقدميَّ على قارعة الطريق الممدود من أول الدنيا إلى آخرها. .؟

واسألي الليل: ألا أجلس فيه متيقظاً أسترقُ السمعَ وألتقط الكلمات الخفية التي ينثرها في غفلة على الأجساد الهاجعة في موتتها الصغرى؟

واسألي البحر: ألا أُسْلم إلى عرائس موجه جسدي يعبثن به، وأملأ بصري بأفقه ولجه وزبده، وسمعي بضجيجه وصخبه، ويدي بقواقعه وأصدافه؛ وأتوسع كثيراً كثيراً حتى أغطيه بروحي وأشربه بكأسي التي وراء حسي؟

واسألي الصحراء: ألا أقف في محرابها الأصفر، وأمسح عضلات جبالها التي أعياها الوقوف، وأُرقِدْ قلبي على مهادها بجانب ذراتها الجامدة وأشواكها الحادة؟

فيا أيتها الأم إني غير عاق في البنوَّة بيني وبينك، والأخوة لأبنائك جميعاً مما علا أو سفل فأسبغي على من شبابك الدائم، واكشفي لي عن محاسنك المكنونة، وعبقريتك المضنون بها على غير أهلها، وزاوِجي بيني وبين بناتك العرائس الأبكار اللائي لم يَطمثهن إنس قبلي ولا جان. . . واسكبي في قلبي من ذاك الإكسير المخلد الذي يجعلك دائماً أصبى من أولادك؛ ولا تأكليني فيما تأكلين من بنيك أيتها الهرة. . . .!

وحينما تغضبين أيتها الأم، فتزأرين بحناجر الريح، وتحطين أبناءك بالقارعات العاتية. . . وتثور أخلاطك فتقذفين الحممَ والشُّواظ واليَحْمومَ من تحت، والصواعق وحرائق البروق وجبال الثلوج من فوق، وتنفضين ما على الأرض بالزلزلة والمَيَدَان، فلا يسلم من يدك بعوضة ولا جمل. . . وتفتحين فكًّيْك لابتلاع الحقول بعشبها وشجرها، والمدن بمدرها ووبرها فتسدين الفجوات التي خلت في أحشائك، وتشبعين جوعك إلى العناصر بأكل أبنائك الذين يضجون وهم في الهول بين يديك بالثغاء والرغاء، والزئير والطنين، والهديل والنعيب، وغيرها من أصوات الحيوان الأبكم. وبالدعاء والبكاء من الحيوان الناطق: أبنك البكر الذي دلَّلْته وعزَّزْته وأعطيته مصباحاً ومفتاحاً زعم بهما أنه إلهك! وجعل قضيتك كلها (معادلة جبرية) في نصف سطر من قلمه العجيب الذي يجعل الدنيا كلمات وأرقاماً. .

<<  <  ج:
ص:  >  >>