للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والتغاضي عن سوآتها، وأقل تمرداً ولجاجاً في الأزمات النفسية. والأديب العربي أكثر تحدثاً عن نفسه وعاداته وآدابه ولباناته منه عن الإنسان عامة؛ وهذه النزعة السمحة الراضية ترجع إلى العوامل أهمها طيب المناخ الذي يبعث البشر والثقة، والإيمان الديني الذي بعثه الإسلام في نفوس أبنائه وبثه في مجتمعهم، والإسلام اكثر تغلغلا في حياة معتنقيه وتسرباً في أرواحهم وتجسما في مظاهر مجتمعهم من غيره من الأديان. هذا إلى أن الحكم المطلق لم يكن يسمح للأدباء بنقد المجتمع والنظم نقداً جريئاً، وإنما كان يروضهم على الاندماج في ظروف الحياة المحيطة بهم، والتعود على اجتناء خيرها واتقاء شرها، كما قال الشاعر:

وإن امرأً أمسى وأصبح سالما ... من الناس إلا ما جنى لسعيد

فلم يكن أدباء العربية يطيلون الوقوف بمهامه الشكوك ومضايق الأزمات النفسية، بل سرعان ما كانوا يشيحون عما يطوف بهم من خيالاتها علماً بأن من أطال الفكر في الحياة وغايتها، والإنسان ومصيره، أقامه الفكر بين العجز والنصب، كما قال المتنبي، وحين كانت تطيف بهم تلك الحالات النفسية العابسة، ويثير شجنهم وجزعهم ما يلاحظون في حياة الإنسان ومجتمعه من نقص وشر، لم يكونوا يتأسون كما يتأسى شعراء الإنجليزية بمحاسن الطبيعة، فقلما أعاروا محاسنها التفاتاً، كما أنهم قلما اكترثوا لفجائعها وأهوالها، ولو كانوا يتعزون بذكر البطولة الإنسانية، فما يكاد يكون لها في آدابهم أثر؛ أو بتاريخ الأمم العظيمة، فما كانوا يذكرون من آمرها إلا غرور مشيديها وتقويض الزمان لأركانها، ولا بالتأمل في مخلفات فنون تلك الأمم، فما كانت توحي إليهم إلا بضعف الإنسان وبطلان مساعيه وقد التفت المتنبي إلى شرقي الإمبراطورية الإسلامية المترامية فقال:

أين الأكاسرة الجبابرة الأولى ... كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا؟

من كل من ضاق الفضاء بجيشه ... حتى ثوى فحواه لحد ضيق

والتفت إلى غربيها فقال:

أين الذي الهرمان من بنيانه؟ ... ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟

تتخلف الآثار عن أصحابها ... حيناً ويدركها الفناء فتتبع

إنما كان أدباء العربية إذا جزعوا لضعف الإنسان وقصر مدته وشرور مجتمعه، يجدون

<<  <  ج:
ص:  >  >>