فاقتنع وشرع يصفها لي فهززت له رأسي وقلت:(خير من هذا الوصف الذي لا يصف شيئاً أن تقول لي: أين تسكن أو أن تذكر لي بقية اسمها. . . شيء من هذا القبيل. . . أما أن تظن أنه يكفي أن تقول: (بنت جميلة هيفاء ممشوقة القوام. . . فاسمح لي أن أؤكد لك أنك. . .)
فرماني بنظرة وأومأ إلى أن أقصر، فأمسكن إشفاقا عليه. وبلع ريقه ثم أخذ يصف لي بيتها فضقت ذرعا بهذا الحال وقلت له:(يا أخي ما حاجتي إلى كل هذا؟؟ وكيف تظن أن في وسعي أن أعرف إنسانا من قولك إن لبيته شرفتين وأربع نوافذ أو عشرا وأن فيه خمس غرف أو ستا.؟ إنما أسالك عن الموقع. . . عن الشارع أو الحارة أو الدرب. . . ماذا جرى لعقلك اليوم)
وبعد لأي ما استطعت أن أعرف الشارع الذي فيه بيتها فتذكرت.
وكانت عايدة هذه - كما قال - جميلة، ولكن في قولي (جميلة) اقتصاداً - أو إن شئت فقل إيجازا مخلا - وما أكثر الجميلات ولكن ما أقلهن أيضاً. والجميلات التي تقع العين عليهن أكثر من أن يأخذهن إحصاء، ولكن اللواتي يقعن من نفس المرء وتثبت على صفحة القلب صورهن - هؤلاء هن القليلات وعايدة هذه إحداهن. وإنه لسر ولغز لا يحل أنها بقيت إلى الآن بلا زواج، فما تنقصها لا الرشاقة ولا الظرف، ولا أنس الحديث وعذوبته، ولا دماثة الطباع وحلاوتها، ولا وفاء الثقافة ولا حسن التدبير وكياسة التصرف. وكانت - ولعلها لا تزال - تلازم شرفتها ولا تكاد تغادر بينها إلا لضرورة ملحة أو حاجة ملجئة، ولا تخرج حين تخرج إلا ومعها أبوها أو أمها أو واحد غير هؤلاء من أهلها. ولعل هذا الذي زهد فيها ونفر منها فما أدري. على أني أعرف أن هذا الحبس قد أغراها بضروب من العبث، فهي لا تزال في شرفتها في حفل من الزينة أو في قميص نوم هفهاف يتركها عارية النحر إلى الثديين، مكشوفة الذراعين إلى ما فوق الكتف، أو في منامة - بيجامة - من الحرير الرقيق محبوكة التفصيل على قدها الممشوق وجسمها الرخص، وإذا كانت لا تخرج وكان في البيت من يغنيها عن العمل ويعفيها من مشقاته، وكانت الشقة على اتساعها أضيق من أن تكفي فتاة متعلمة حديثة الآراء فإنها لا تكاد تفارق الشرفة - فيها تقعد لتروح عن نفسها ولتقرأ إذا شاءت، ولتنظر إلى الرائحين والغادين وتتسلى بالمناظر التي تأخذها عينها، وقد