فالظّاهر أن المبهم في الإسناد هو صحابي، وقد يكون هو جابر كما في رواية إبراهيم بن سعد، ولعلّ الزهريَّ سماه مرة وأبهمه أخرى. وإبراهيم بن سعد حجة ثقة فزيادته مقبولة.
وقد جاء هذا المعنى عن حذيفة موقوفًا عليه، وهو ما رواه أبو داود الطّيالسيّ في مسنده (٤١٤)، والنّسائيّ في الكبرى (١١٢٩٤)، والبزّار (٢٩٢٦)، والطبريّ في تفسيره (١٥/ ٤٤) كلّهم من حديث شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت صلة بن زفر يحدّث عن حذيفة، قال: يُجمع النّاس في صعيد واحد فلا تكلَّم نفسٌ، فيكون أول مدعُوٍّ محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فيقول: "لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشّر ليس إليك، والمهديُّ من هديت، وعبدك بين يديك، أنا بك وإليك، وتباركت ربّنا وتعاليت، سبحانك ربّ البيت" فذلك قوله عزّ وجلّ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [سورة الإسراء: ٧٩].
ورواه الحاكم (٢/ ٣٦٣) من وجه آخر عن أبي إسحاق بإسناده، وقال: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذه السياقة".
قلت: هذا هو الصحيح بأن هذا الحديث روي موقوفًا على حذيفة، وهو الذي رجّحه أبو حاتم حين سأله ولده عن حديث رواه حماد بن سلمة، عن عبد اللَّه بن المختار، عن أبي إسحاق، عن صلة، عن حذيفة، أنّ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال (فذكر الحديث). فقال: "لا يرفع هذا الحديث إلّا عبد اللَّه بن المختار، وموقوف أصح". العلل (٢١٤٠).
قلت: هذا المرفوع رواه ابن أبي عاصم في السنة (٧٨٩) عن محمد بن أبي مخلد الواسطيّ، حدثنا أبي، ثنا حماد بن سلمة، بإسناده وفيه من لا يعرفون.
وقد جاء الرّفع أيضًا من طريق ليث بن أبي سليم، عن أبي إسحاق بإسناده.
رواه الطبراني في "الأوسط" (١٠٥٨)، والحاكم (٤/ ٥٧٣)، وفيه ليث بن أبي سليم، ضعيف.
والخلاصة أن حديث حذيفة موقوف إلا أن يقال: حكمه الرّفع لأنّ مثل هذا لا يقال بالرّأي، ولذا يرى كثير من أهل العلم أن تفسير الصحابي بالغيبيات في حكم الرّفع، وله أمثلة في الصحاح، وهو شاهد قوي لمن قال: المراد بالمقام المحمود الشفاعة.
قال ابن جرير الطبريّ: "وهو قول أكثر أهل العلم".
وفي الباب عن أبي هريرة، عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [سورة الإسراء: ٧٩] قال: "هو المقام الذي أشفع فيه لأمّتي".
رواه الترمذيّ (٣١٣٧)، والإمام أحمد (٩٦٨٤، ٩٧٣٥)، وابن خزيمة في التوحيد (٦١٠)، وابن أبي عاصم في السنة (٧٨٤)، والآجريّ في الشريعة (١٠٩٩)، وابن جرير الطّبريّ (١٥/ ٤٧) كلّهم من طريق داود الأوديّ الزغافري، عن أبيه، عن أبي هريرة، فذكره.
قال الترمذي: "هذا حديث حسن، وداود الزغافريّ هو داود بن يزيد بن عبد اللَّه الأوديّ، وهو عبد اللَّه بن إدريس".