فقالت له قريش: ما وراءك هل جئت بكتاب من محمد أو عهد؟ قال: لا والله، لقد أبى علي وقد تتبعت أصحابه فما رأيت قومًا لملك عليهم أطوع منهم له، غير أن علي بن أبي طالب قد قال لي: لم تلتمس جوار الناس على محمد، ولا تجير أنت عليه وعلى قومك، وأنت سيد قريش وأكبرها وأحقها أن تخفر جواره؟ فقمت بالجوار، ثم دخلت على محمد فذكرت له أني قد أجرت بين الناس، وقلت: ما أظن أن تخفرني؟ فقال:"أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة؟ " فقالوا - مجيبين له -: رضيت بغير رضى، وجئتنا بما لا يغني عنا ولا عنك شيئا، وإنما لعب بك علي، لعمر الله ما جوارك بجائز، وإن إخفارك عليهم لهين. ثم دخل على امرأته فحدثها الحديث، فقالت: قبحك الله من وافد قوم فما جئت بخير. قال: ورأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحابا فقال:"إن هذه السحاب لتبض بنصر بني كعب". فمكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يمكث يعد ما خرج من عنده أبو سفيان، ثم أخذ في الجهاز، وأمر عائشة أن تجهزه وتخفي ذلك. ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد أو إلى بعض حاجاته، فدخل أبو بكر على عائشة، فوجد عندها حنطة تنسف وتنقي، فقال لها: يا بنية لم تصنعين هذا الطعام؟ فسكتت. فقال: أيريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغزو؟ فصمتت. فقال: يريد بني الأصفر - وهم الروم - فصمتت. قال: فلعله يريد أهل نجد؟ فصمتت. قال: فلعله يريد قريشا؟ فصمتت. قال: فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: يا رسول الله! أتريد أن تخرج مخرجًا؟ قال:"نعم". قال: فلعلك تريد بني الأصفر؟ قال:"لا". قال: أتريد أهل نجد؟ قال:"لا". قال: فلعلك تريد قريشًا؟ قال:"نعم". قال أبو بكر: يا رسول الله! أليس بينك وبينهم مدة؟ قال:"ألم يبلغك ما صنعوا ببني كعب؟ ". قال: وأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس بالغزو. أخرجه البيهقي في الدلائل (٥/ ٩ - ١٢) بإسناده إلى موسى بن عقبة هكذا معلقًا عن موسى بن عقبة.
وأهل السير مختلفون في ذهاب أبي سفيان إلى المدينة أكان ذلك قبل الخبر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نقض قريش العهد الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبينهم، فيطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - التجديد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يرفض ذلك قائلًا:"نحن على أمرنا الذي كان" أم كان بعد أن وصل الخبر إلى المدينة ووعد النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن سالم الخزاعي الذي جاء إلى المدينة يستنصره فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نصرت يا عمرو بن سالم " كما سبق ذكره. فندمت قريش وأرسلت أبا سفيان إلى المدينة فجاء يطلب الشفاعة من أبي بكر وعمر وفاطمة وعلي وابنته حبيبة أن يكلموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشأن، فلم يستجيبوا لطلبه فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلمه، فلم يرد عليه شيئًا.
فالظاهر من الروايات السابقة أن مجيئه كان بعد وصول خبر نقض قريش المعاهدة، ولذا لم يكلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء، بل كتم ما كان ينوي في نفسه كما كتم لغيره.
[٤ - باب كتمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر خروجه من أصحابه]
• عن عائشة أن أبا بكر دخل عليها وهي تغربل حنطة لها فقال: ما هذا؟ أمركم