للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأنت أيضًا تقول: كل ما يفعله الله تعالى بعبده هو خير له، وتزعم أنك من جملة العبيد، وأنت تتلون على الله سبحانه، لك في كل يوم لون جديد، فقد خالف قولك فعلك، يا من تدعي العبودية والرضَى والتوحيد، قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (٣)[الصف: ٢ - ٣]. كذلك قول بعض المخذولين في ظاهر الأمر: إن الشيطان للإنسان عدو مبين، وهو صديقه في الباطن، فمثله كمثل من قال: إن العسل مسموم، ثم مدَّ يده ليأكل منه،


=بين دفعِها وقبولها، وإن كان قد يترجَّح أحدُهما، كدفع الصائل عن المال، وكالتداوي أحيانًا ونحو ذلك. وكذلك الأمور التي ليست حاصلةً عندنا، منها ما نُؤمَر بطلبه واستعانة الله عليه، كأداء الواجبات، ومنها ما نُنهَى عن طلبه كالظلم، ومنها ما نُخيَّر بين الأمرين، فكيف يقال مع هذا: إن العبدَ ينبغي له أن يكون كالميِّت بين يدي الغاسل؟ هذا مع الله. وأما كونه كذلك مع الشيخ ففيه تنزيلُ الشيخ منزلةَ الرسول، وهذا على إطلاقه باطل، لكن فيه تفصيل ليس هذا موضعه. ومما يُغلَظ فيه ما يُذكَر عن الشيخ أبي يزيد أنه قال في بعض مناجاته لما قيل له: ماذا تريد؟ فقال: أريد ألا أريدَ، لأني أنا المراد وأنت المريد. ويتحذلقُ بعضُهم على أبي يزيد، فيقول: فقد أراد بقوله: أريد! وهذا الاعتراض خطأ لوجهين: أحدهما: أنه من قيل له: ماذا تريد لم يُطلَب منه عدم الإرادة، وانما طُلِب منه تعيينُ المراد. الثاني: أن انتفاء الإرادة ممتنع، وهو محزَمٌ، بل عليه أن يريد ما أراده منه، ولا بدَّ له من ذلك. وأما قوله: أريد أن لا أريد، لأنِّي أنا المراد وأنت المريد؛ فلا ينبغي أن يفهم من قوله: أن لا أريد؛ أن لا تكون لي إرادة، فإن هذا باطل محرم، وإنما أراد أن لا يكون ابتداءُ الإرادة مني، بل إرادتي تابعة لك لأنك أنت مرادي، فأريد أن لا أريد إلا إياك. وهذا حقيقة الحنيفية والإخلاص، فإذا كنتُ لا أريد إلا إياك لم أحب ولا أفعل إلا ما أمرتني به، فكان حقيقة قوله: أريد أن لا أعبد إلا إياك، ولا أريد شيئًا قطُّ إلا وجهَك الكريم، وهذا عين ما أوجبه الله لكل عبد، وهي الإرادة الدينية الشرعية. وأيضًا فقد يقول: أريد ألاَّ تكون لي إرادة إلا ما أمرتَني أن أريده، وأردتَه لي إرادةَ محبةٍ ورضًى، لجهلي وعجزي. وأريد أن أكون عبدًا محضًا، فلا أريد إلا ما تريده أنت، بحيث يكون المرادُ المختار أمرًا دينيًّا وقضاءً كونيًّا لا يخالف الأمر الديني. فهذا الكلام يكون إخلاصًا وتفويضًا، وكلاهما إسلام وجهه لله. وأيضًا فإنه قد يقول هذا في مقام الفناء والاصطلام، إذا غلبَ على قلبه، حتى غاب به عن شهود نفسه وإرادته، فهو يُحب هذا الفناء، لأنه متى رجع إلى نفسه أرادت بهواها، فهو يريد أن يَفنَى عن نفسه حتى يكون الحق هو الذي يريد له وبه. ثم إنه مع الفناء في نوع من الإرادة لله التي هي أعظم الإرادات، لكنه غائبٌ كغيبته عن نفسه مع وجودها. وهذا كله حسن، وإن كان البقاء أفضل ما لم يُفْضِ الأمرُ إلى ترك مأمور به جريًا مع الكوني. (جامع المسائل: ٦/ ٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>