للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وروى زيد بن أرقم أن أبا بكر الصديق استسقى ماءً، فأتي بماء وعسل (١) في إناءٍ؛ فلما أدناه من فيه بكى وأبكى من حوله؛ ثم سكت وسكتوا، ثم عاد فبكى حتى ظنوا أنهم لا يقدرون على مساءلته، ثم مسح وجهه وأفاق، فقالوا: ما هيج هذا البكاء عليك؟ قال: كنت مع النبي فجعل يدفع عنه شيئًا: «إليك عني». ولم أر أحدًا معه، فقلت: يا رسول الله، أراك تدفع شيئًا ولم أر أحدًا معك؟ فقال: «هذه الدنيا تمثلت لي بما فيها، فقلت لها: إليك عني. فتنحَّت وقالت: والله لئن انفلتَّ مني لا ينفلت مني من بعدك». فخشيت أن تكون قد لحقتني فذاك الذي أبكاني (٢).

قال المؤلف: متى ملأ حب الدنيا القلوب التي في الصدور، توقفت على أربابها جميع الأمور، فلا يجدون حلاوة الطاعة، ولا ينزل نور العلم لقلوبهم لغفلة أحدهم وذهوله عن الموت وأهوال يوم الساعة، فتراه إذا صلى وحده توسوس ونقر الصلاة، ودرج القراءة ليتفرغ لحظوظ نفسه، فبئس ما قدم والله من البضاعة بين يدي الساعة، وإن صلَّى مع القوم سبق إمامه، والدنيا واقفة أمامه؛ فتارةً يعبث بلحيته، (وتارةً ينظر لجبته) (٣)، ويعدل العمامة، وأما القلب فقد أعماه حب الدنيا، وهو غافل عن أهوال يوم القيامة، قد ملأت الدنيا عينه وقلبه وسمعه، لها ينظر، ولها يسمع، ولها يأخذ، ولها يمنع، اللَّهم سلمنا من شر هذه الأربع.

فتراه لا يقبل قول ناصح، ولا يتعظ بكلام رجل صالح، دينه هواه، وحديثه دنياه؛ وهذا حال من خذله خالقه ومولاه؛ فإن جمع المحب للدنيا منها ما يكفيه، وقيل له: تفرغ من هموم هذه الدنيا الفانية فالموت قريب، واعمل على كل شيء يؤمنك يوم القيامة، ويوصلك إلى الحبيب، لا يسمع


(١) في (ق، ب): وغسل.
(٢) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» ١/ ٣١.
(٣) ليست في (ق).

<<  <  ج: ص:  >  >>