للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رآني هرب مني، فقلت: رحمك الله، إنسيٌّ يهرب من إنسي؟ قال: وهل البلاء إلا معكم؟ التزين والرياء والتصنع، إني لفي هذا الجبل ما شاء الله، تمر بي السباع فلا أجد لها وحشةً في قلبي، وإني لأشد أُنْسًا بها من أنسي بكم، إنكم قوم مَلَأَتِ الدنيا قلوبكم؛ فمالت أبدانكم إليها، واستأنستم بها، فأنتم تستوحشون عند فَقْدِ أهلها، وأنتم مع انقطاعكم إليها لا يطيب لكم عيشٌ معها، إن دخلت عليكم أتعبتكم، وإن انصرفت عنكم أحزنتكم، فهلموا يا أبناء الشقاء وعبيد الدنيا إلى الراحة من رِقِّ الهوى، والتنعم بخدمة المولى (١).

قيل لرابعة: بم نلتي هذه المنزلة؟ قالت: بتركي ما لا يعنيني، وبأنسي بمن لم يزل (٢).

اللَّهم اجعلنا من المنقطعين إليك، ومن الدائمين بين يديك، ومن المستسلمين لقضائك، ولا تجعلنا من المتعرِّضين عليك.

اعلم رحمك الله أن الداخل مع الناس لا يسلم من إحدى وجهين: إما يخوض معهم إذا خاضوا في الباطل، أو يسكت (٣) إذا رأى منهم منكرًا فيأثم، أو يمدحوه فيعينوا نفسه عليه، أو يغتابوا عنده أحدًا فيذهب الله بحسناته؛ لأن المستمع شريك القائل في خير سمعه منهم أو شر.

قال بعضهم: مررت بالفضيل بن عياض في بيت الله الحرام عند سارية وحده وكان صديقي فجلست وسلمت عليه، فقال: ما جاء بك؟ فقلت له: اغتممت لوحدتك. فقال: اخْتَرْ إما أقوم عنك أو تقوم عني. فقلت له: أوصني. فقال: أخْفِ مكانك، واحفظ لسانك، واستغفر الله لذنبك (٤).

وقال السيد الجليل سهل بن عبد الله : اجتمع الخير كله


(١) لم أجده.
(٢) لم أجده.
(٣) في (خ، ب): سكت.
(٤) أخرجه ابن أبي الدنيا في «العزلة والإنفراد» (٧٢)، وفي «التواضع والخمول» (٦٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>