للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال رجل لسفيان الثوري: أوصني. فقال : هذا زمان السكوت ولزوم البيوت (١).

وقال العنبري: اجتمع أصحاب الحديث على باب الفضيل بن عياض، فاطلع عليهم من كوة وهو يبكي، ولحيته ترجف، وقال: عليكم بالقرآن، عليكم بالصلاة، ويحكم ليس هذا زمان حديث؛ إنما هذا زمان بكاء وتضرع ودعاء كدعاء الغريق، إنما هذا زمانُ احفظ لسانك، وأخْفِ مكانك، وعالج قلبك، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر (٢).

هذا هو قول هذا السيد في زمانه، وهو الصدر الأول؛ لأنه كان من التابعين الزاهدين، ومن العلماء الموحدين، فما بالك يا أخي بزماننا هذا الذي كثر فيه البدع وقل إنكارها، فترى أحدنا قد مُلِئ قلبه بحب الدنيا، فصار همه بطنه، ودينه هواه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ويقال إن العافية عشرة أجزاء: تسعة في الصمت، وواحدة في الهرب من الناس (٣)، فجرِّبوها فوجدوا خير هذه الأجزاء الهرب من الناس.

قال سفيان بن عيينة: قال لي سفيان الثوري في اليقظة والمنام وفي حياته وبعد وفاته: أقلل من معرفة الناس؛ فإن التخلص منهم لشديد، ولا أحسب أنك رأيت ما تكره إلا ممن عرفت (٤).

قال : «سبَقَ المفَرِّدُونَ» (٥)، رواه أبو هريرة .


(١) أخرجه ابن أبي الدنيا في «العزلة والانفراد» (٩٤).
(٢) ذكره الغزالي في «الإحياء» ٤/ ١٨٦، وابن الحاج في «المدخل» ٣/ ١٦٠.
(٣) ذكره الدارقطني في «المؤتلف والمختلف» ٢/ ٤٧، والجرجاني في «تاريخ جرجان» (٤٠٤)، وابن ناصر الدين في «توضيح المشتبه» ٥/ ١٨٣ من قول دَاوُد بن سُرَيج .
(٤) ذكره الغزالي في «الإحياء» ٢/ ٢٣٤.
(٥) أخرجه أحمد في «مسنده» ٢/ ٣٢٣ (٨٢٩٠)، ومسلم في «صحيحه» (٢٦٧٦)، والترمذي في «جامعه» (٣٥٩٦)، وابن حبان في «صحيحه» (٨٥٨) من حديث أبي هريرة ، قال: كان رسول الله يسير في طريق مكة، فمرَّ على جبلٍ يقال له: جُمْدان، فقال: «سيروا هذا جمدان، سبق المفَرِّدُون»، قالوا: وما المفَرِّدُون يا رسول الله؟ قال: «الذاكرون الله كثيرًا، والذاكرات».
قال النووي في «شرح مسلم»: هكذا الرواية فيه: المفَرِّدون بفتح الفاء وكسر الراء المشددة، وهكذا نقله القاضي عن متقني شيوخهم، وذكر غيره أنه روي بتخفيفها وإسكان الفاء، يقال: فرَدَ الرجل وفرَّد بالتخفيف والتشديد، وأفرد، وقد فسرهم رسول الله بالذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، تقديره: والذاكراته، فحذفت الهاء هنا كما حذفت في القرآن لمناسبة رؤوس الآي، ولأنه مفعول يجوز حذفه، وهذا التفسير هو مراد الحديث، قال ابن قتيبة وغيره: وأصل المفردين الذين هلك أقرانهم، وانفردوا عنهم، فبقوا يذكرون الله تعالى. وجاء في رواية: هم الذين اهترُّوا في ذكر الله، أي لهجوا به. وقال ابن الأعرابي: يقال فرد الرجل إذا تفقه، واعتزل، وخلا بمراعاة الأمر والنهي.
وقال ابن القيم في «الوابل الصيب»: وفي بعض ألفاظ الحديث: «المستهترون بذكر الله» ومعناه: الذين أولعوا به، يقال: استهتر فلان بكذا إذا ولع به. وفيه تفسير آخر: أنهم أهتروا في ذكر الله، أي كبروا، وهلك أقرانهم، وهم في ذكر الله تعالى.
وقال في «مدارج السالكين»: والمفردون إما الموحِّدون، وإما الآحاد الفرادَى.
قلتُ: على أي المعنيين كان فلا يدل على استشهاد المؤلف به على العزلة، فإن النبي قد كفانا مؤنة تأويل الحديث، فبيَّن أن المفردون هم أهل الذكر الموحدون لربهم، وهم أيضًا الآحاد الفرادى لقلة الذاكرين الشاكرين في الناس.

<<  <  ج: ص:  >  >>