للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا في أنها زهرة فانية ونعمة زائلة؛ فقال: ﴿كَمَثَلِ غَيثٍ﴾، وهو: المطر الذي يأتي بعد قنوط الناس، كما قال: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا﴾.

وقوله: ﴿أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾. أي: يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذي نبت كالغيث، وكما يعجب الزراع ذلك كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار، فإنهم أحرص شيء عليها [وأميل] [١] الناس إليها، ﴿ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا﴾، أي: يهيج ذلك الزرع فتراه مصفرًّا بعدما كان [خضرًا] [٢] نَضرًا، ﴿ثُمَّ يَكُونُ﴾ بعد ذلك كله [إلى أن] [٣]: يصير يَبَسًا متحطمًا، هكذا الحياة الدنيا تكون أولًا شابة، ثم تكتهل، ثم تكون عجوزًا شوهاء، والإِنسان كذلك يكون في أول عمره وعنقوان شبابه غضًّا طريًّا بين الأعطاف، بهي المنظر، ثم إنه كشرع في الكهولة فتتغير طباعه ويَنْفَدُ بعض قواه، ثم يكبر فيصير شيخًا كبيرًا ضعيف القوى قليل الحركة، يعجزه الشيء اليسير، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾. ولما كان هذا المثل دالًّا على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة، وأن الآخرة كائنة لا محالة، حَذّر من أمرها، ورغّب فيما فيها من الخير، فقال: ﴿وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾، أي: وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا؛ إما عذاب شديد، وإما مغفرة من اللَّه ورضوان.

وقوله: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾، أي: هي متاع فانٍ غارّ لمن ركن إليه، فإنه يغتر بها، وتعجبه حتى يعتقد أنه لا دار سواها، ولا معاد وراءها، وهي [حقيرة] [٤] قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة.

قال ابن جرير: حدثنا عليّ بن حرب الموصلي، حدثنا المحاربي، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول اللَّه : موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها. اقرءوا. ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ (٥٣). وهذا الحديث ثابت في الصحيح بدون هذه الزياده (٥٤)، واللَّه أعلم.


(٥٣) - تفسير الطبري (٢٧/ ٢٣٢).
(٥٤) - أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: مثل الدنيا في الآخرة، حديث (٦٤١٥) (١١/ ٢٣٢). ومسلم في كتاب الإمارة، باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل اللَّه، حديث (١١٣/ ١٨١) (١٣/ ٣٩). كلاهما من طريق عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعًا به.