تقدم في أول "سورة البقرة" عامةً الكلامُ على ما يتعلق بصدر هذه السورة، وهو أنه - تعالى - جعل هذا القرآن هدى وشفاء ورحمة للمحسنين، وهم الذين أحسنوا العمل في اتباع الشريعة، فأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها وأوقاتها، وما يتبعها من نوافل راتبة وغير راتبة، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها، ووصلوا قراباتهم وأرحامهم، وأيقنوا بالجزاء في الدار الآخرة، فرغبوا إلى الله في ثواب ذلك، لم يراءوا به، ولا أرادوا جزاء من الناس ولا شكورا، فمن فعل ذلك كذلك فهو من الذين قال الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾، أي: على [١] بصيرة وبينة ومنهج واضح جليٍّ، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، أي: في الدنيا والآخرة.
لما ذكر تعالى حال السعداء، وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ عطف بذكر حال الأشقياء، الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب، كما قال ابن مسعود في قوله