هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش، فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل، الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود، فأبادهم الله، وأرغم آنافهم، وخيب سعيهم، وأضل عملهم، وردهم بشر خيبة. وكانوا قومًا نصارى، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالًا مما كان عليه قريش من عبادة الأوثان، ولكن كان هذا من باب الإِرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله ﷺ، فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال، ولسان حال القدر يقول: لم ننصركم -يا معشر قريش- على الحبشة لخيريتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء.
وهذه قصة أصحاب الفيل (١) على وجه الإيجاز والاختصار والتقريب، قد تقدم في قصة أصحاب الأخدود أن ذا نواس -وكان آخر ملوك حمير، وكان مشركًا- هو الذي قتل أصحاب الأخدود، وكانوا نصارى، وكانوا قريبًا من عشرين ألفًا، فلم يفلت منهم إلا دَوْس ذو ثعلبان، فذهب فاستغاث بقيصر ملك الشام -وكان نصرانيًّا- فكتب له إلى النجاشي ملك الحبشة، لكونه أقرب إليهم، فبعث معه أميرين: أرياط وأبرهة بن الصباح أبا يكسوم [١]، في جيش كثيف، فدخلوا اليمن فجاسوا خلال الديار، واستلبوا الملك من حمير، وهلك ذو نواس غريقًا في البحر، واستقل الحبشة بملك اليمن وعليهم هذان الأميران: أرياط وأبرهة، فاختلفا في أمرهما وتصاولا وتقاتلا وتصافا، فقال أحدهما للآخر: إنه لا حاجة بنا إلى اصطدام الجيشين بيننا، ولكن أبرز إليّ وأبرز إليك، فأينا قتل الآخر استقل بعده بالملك. فأجابه إلى ذلك فتبارزا، وخلف كل واحد منهما قناة، فحمل أرياط على أبرهة فضربه بالسيف، فشرم أنفه
(١) ذكر القصة في سيرة ابن هشام من طريق ابن إسحاق (ص ٢٧) وما بعدها، والطبري في تفسير هذه السورة.