حاتم، عن ابن مسعود، أنه سمع كعبًا يقول لعمر: إن سليمان ﵇ قال للهامة -يعني: البومة-: ما لك لا تأكلين الزرع؟ قالت: لأنه أخرج آدم بسببه من الجنة. قال: فما لك لا تشربين الماء؟ قالت: لأن الله أغرق قوم نوح به. قال: فما لك لا تأوين إلا إلي الخراب؟ قالت: لأنه ميراث الله -عز جل- ثم تلا: ﴿وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾.
ثم قال الله مخبرًا عن عدله، وأنه لا يهلك أحدًا ظالمًا له، وإنما يهلك من أهلك بعد قيام الحجة عليهم؛ ولهذا قال: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا﴾ وهي مكة ﴿رَسُولًا يَتْلُو عَلَيهِمْ آيَاتِنَا﴾، فيه دلالة علي أن النبي الأمي- وهو محمد ﷺ المبعوثَ من أم القرى- رسولٌ إلي جميع القرى من عرب وأعجام؛ كما قال تعالى: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ وقال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيكُمْ جَمِيعًا﴾ وقال: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾. وقال: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ وتمام الدليل: ﴿وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (٥٨)﴾ فأخبر أنه سيهلك كل قرية قبل يوم القامة، وقد قال: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (١٥)﴾. فجعل تعالى بعثة النبي الأمي شاملة لجميع القرى، لأنه مبعوث إلي أمها وأصلها [١] التي ترجع إليها. وثبت في الصحيحين عنه-ﷺ أنه قال:"بعثت إلي الأحمر والأسود". ولهذا ختم به الرسالة والنبوة، فلا نبي بعده ولا رسول، بل شرعه باق بقاء الليل والنهار إلي يوم القيامة.
وقيل المراد بقوله: ﴿حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا﴾ أي: أصلها وعظيمتها كأمهات الرساتيق والأقاليم. حكاه الزمخشري وابن الجوزي وغيرهما، وليس ببعيد.
يقول تعالى مخبرًا عن حقارة الدنيا، وما فيها من الزينة الدنيئة والزهرة الفانية بالنسبة إلي ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة من النعيم العظيم المقيم؛ كما قال: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ وقال: ﴿وما عند الله خير للأبرار﴾ وقال: ﴿وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع﴾ وقال: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيرٌ وَأَبْقَى﴾ وقال رسول الله ﷺ: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يَغْمِس أحدكم إصبعه في اليم فَلينْظُر ماذا يرجع إليه؟ "(٣٤).
(٣٤) رواه مسلم في صحيحه يرقم (٢٨٥٨) من حديث المستورد بن شداد ﵁.