للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة رجل -حكى عنه أبو بكر محمد بن داود الدِّينَوَري، المعروف بالدقي الصوفي- قال هذا الرجل [١]: كنت أكاري على بغل لي من دمشق إلي بلد الزبداني، فركب معي ذات مرة رجل، فمررنا على بعض الطريق، على طريق غير مسلوكة، فقال لي: خذ في هذه، فإنها أقرب. فقلت: لا خبرة لي فيها، فقال: بل هي أقرب. فسلكناها فانتهينا إلي مكان وَعْر وواد عميق، وفيه قتلى كثير، فقال لي: أمسك رأس البغل حتى أنزل. فنزل وتشمر، وجمع عليه ثيابه، وسل سكينًا معه وقصدني، ففررت من بين يديه وتبعني، فناشدته الله، وقلت: خذ البغل بما عليه. فقال: هو لي، وإنما أريد قتلك. فخوفته الله والعقوبة فلم يقبل، فاستسلمت بين يديه، وقلت: إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين؟ فقال: وعجل. فقمت أصلي فأرتج علي القرآنُ فلم يَحضرني منه حرف واحد، فبقيت واقفًا متحيرًا وهو يقول: هيه! افرُغ. فأجرى الله على لساني قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾، فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم [٢] الوادي، وبيده حربة، فرمى بها الرجل فما أخطأت فؤاده، فخر صريعًا، فتعلقت بالفارس وقلت: بالله، من أنت؟ فقال: أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. قال: فأخذت البغل والحمل ورجعت سالمًا.

وذكر [٣] في ترجمة فاطمة بنت الحسن أم أحمد العجلية (١٨)، قالت: هزم الكفار يومًا المسلمين في غزاة، فوقف جَوَاد جَيد بصاحبه، وكان من ذوي اليسار ومن الصلحاء، فقال للجواد: ما لك؟ ويلك! إنما كنت أعدك لمثل هذا اليوم. فقال له الجواد: وما لي لا أقصر وأنت تكل علوفتي إلي السواس فيظلموني ولا يطعمونني إلا القليل؟ فقال: لك علي عهد الله أن [٤] لا أعلفك بعد هذا اليوم إلا في حِجْري. فجرى الجواد عند ذلك، ونجَّى صاحبه، وكان لا يعلفه بعد ذلك إلا في حجره. واشتهر أمره بين الناس، وجعلوا يقصدونه ليسمعوا منه ذلك، وبلغ ملك الروم أمره، فقال: ما تُضَام [٥] بلدة يكون هذا الرجل فيها. واحتال ليحصله في بلده، فبعث إليه رجلا من المرتدين عنده، فلما انتهى إليه أظهر له أنه قد حَسنت نيته في الإسلام وقومه، حتى استوثق، ثم خرجا يومًا يمشيان على جنب الساحل، وقد أوعد شخصًا آخر من جهة ملك الروم ليتساعدا على أسره، فلما اكتنفاه ليأخذاه رَفَع طرفه إلي السماء وقال: اللهم، إنه إنما خَدَعني بك فاكفنيهما بما شئت، قال: فخرج سبعان إليهما فأخذاهما، ورجع الرجل سالمًا.


(١٨) تاريخ دمشق (١٩/ ٤٨٩ "المخطوط").