للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقيل: على التعجب، تقديره: أعظم بكلمتهم كلمة، كما تقول: أكرم بزيد رجلًا. قاله [١] بعض البصريين، وقرأ ذلك بعض قراء مكة (كبرت كلمةٌ) كما يقال: عَظُمَ [٢] قولك وعظم [٣] شأنك. والمعنى على قراءة الجمهور أظهر؛ فإن هذا تبشيع لمقالتهم واستعظام لإِفكهم، ولهذا قال: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾، أي: ليس لها مستند سوى قولهم، ولا دليل لَهُم عليها إلَّا كذبهم وإفتراؤهم؛ ولهذا قال: ﴿إِنْ يَقُولُونَ إلا كَذِبًا﴾.

وقد ذكر محمد بن إسحاق (٩) سبب نزول هذه السورة الكريمة فقال: حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي مُعَيط، إلى أحبار يهود [٤] بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله [٥]؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتَّى قدما المدينة، فسألوا أحبار يهود عن رسول الله ، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. قال: فقالت لهم: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل مُتقَوَّل؛ فَرَوْا (*) فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم؛ فإنه [٦] قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوَّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح، ما هو؟ فإن أخبركم لذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقوّل، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.

فأقبل النضر وعقبة حتَّى قدما على قريش، فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم، وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فأخبروهم بها - فجاءوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا - فسألوه عما أمروهم به - فقال لهم رسول الله : "أخبركم غدًا بما سألتم عنه" - ولم يستثن - فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله خمس عشرة ليلة لا


(٩) أخرجه أبي هشام في "السيرة" (١/ ٣١١، ٣١٢) وابن جرير في تفسيره (١٥/ ١٩١ - ١٩٢) عن ابن إسحاق مطولًا.
(*) - روا: فعل أمر من رأي.