بينات، أي: في حال بيانها ووضوحها وجلائها، يقولون: ﴿هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ أي: سحر واضح، وقد كَذَبوا وافتروا وضَلُّوا وكفروا. ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ يعنون محمدًا ﷺ. قال الله: ﴿قُلْ إِنِ افْتَرَيتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيئًا﴾ أي: لو كذبت عليه وزعمت أنه أرسلني - وليس كذلك - لعاقبني أشد العقوبة، ولم يَقْدرْ أحد [من أهل الأرض][١]، لا أنتم ولا غيركم، أن يجيرني منه، كقوله: ﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (٢٢) إلا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ﴾ قال: تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَينَا بَعْضَ الْأَقَاويلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾. ولهذا قال هاهنا: ﴿قُلْ إِنِ افْتَرَيتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَينِي وَبَينَكُمْ﴾. هذا تهديد لهم، ووعيد أكيد، وترهيب شديد.
وقوله: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾: ترغيب لهم إلى التوبة والإِنابة، أي: ومع هذا كله [٢] إن رجعتم وتبتم، تاب عليكم وعفا عنكم، وغفر ورحم. وهذه الآية كقوله في سورة الفرقان: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.
وقوله: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ أي: لست بأول رسول طرق العالم، بل قد جاءت الرُّسل من قبلي، فما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدوا [٣] بعثتي إليكم، فإنه قد أرسل الله قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم.
قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ ما أنا بأول رسول. ولم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم غير ذلك.
وقوله: ﴿وَمَا [٤] أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية: نزل بعدها ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾. وهكذا قال عكرمة، والحسن، وقتادة: إنها منسوخة بقوله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾، قالوا: ولما نزلت هذه الآية قال رجل من المسلمين: هذا قد بيّن الله ما هو فاعل بك يا رسول الله، فما هو فاعل بنا؟ فأنزل الله: ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ﴾.
هكذا قال، والذي هو ثابت في الصحيح (٢) أن المؤمنين قالوا: هنيئًا لك يا رسول الله،
(٢) - سيأتي تخريجه في أول سورة الفتح / الآية (١) من حديث أنس.