للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عباس، وسئل عن حَبَل [١] مريم؟ قال: لم يكن إلا أن حملت فوضعت [٢].

وهذا غريب، وكأنه [٣] [أخذه] [٤] من ظاهر قوله تعالى ﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (٢٢) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ فالفاء وإن كانت للتعقيب، لكن تعقيب كل شيء بحسبه، كقوله [٥] تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا﴾ فهذه الفاء للتعقيب بحسبها.

وقد ثبت في الصحيحين (٦٣) أن بين كل صفتين أربعين يومًا، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً﴾ فالمشهور الظاهر -والله علي كل شيء قدير-: أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن؛ ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل، عليها [٦] وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها، يخدم معها البيت المقدس، يقال له: يوسف النجار، فلما رأى ثقل بطها وكبره، أنكر ذلك من أمرها، ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها، ودينها وعبادتها، ثم تأمّل ما هي فيه، فجعل أمرها يجوس في فكره، لا يستطع صرفه عن نفسه، فحمل نفسه علي أن عَرضَ لها في القول، فقال: يا مريم، إني سائلك عن أمر فلا تعجلي علي. قالت: وما هو؟ قال: هل يكون قط شجر من غير حب، وهل يكون زرع من غير بذر، وهل يكون ولد من غير أب؟ فقالت: نعم -وفَهِمَتْ ما أشار إليه- أما [٧] قولك: هل يكون شجر من غير حب، وزرع من غير بذر: فإن الله قد [٨] خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب، ولا بذر، و [هل خلقٌ يكون] [٩] من غير أب: فإن الله تعالى قد خلق آدم من غير أب ولا أم. فصدقها وسلم لها حالها.


(٦٣) - أخرجه البخاري في كتاب: "بدء الخلق"، باب: ذكر الملائكة حديث (٣٢٠٨) (٦/ ٣٠٣) وأطرافه في (٣٣٣٢ - ٦٥٩٤ - ٧٤٥٤). ومسلم في كتاب: القدر، حديث (١/ ٢٦٤٣) (١٦/ ٢٩٢) وما بعدها، من حديث ابن عباس بلفظ "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقه مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا يؤمر بأربع كلمات ويقال له: اكتب عمله ورزقه وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم، ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون وبينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة". واللفظ للبخاري.