للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال: ولقد بالغت في الأصول طول عمري، ثم عدت القهقرى إلى مذهب المكتب، وإنما قالوا: إن مذهب العجائز أسلم لأنهم لما انتهوا إلى غاية التدقيق في النظر لم يشهدوا ما يشفي العقل من التعليلات والتأويلات، فوقفوا مع مراسم الشرع وجنحوا عن القول بالتعليل (١)، وأذعن العقل بأن فوقه حكمة إلهية؛ فسلم.

وبيان هذا أن نقول: أحبَّ أن يُعْرَف، أراد أن يُذكر، فيقول قائل: هل شغف بإيصال النفع؟ هل دعاه داع إلى إفاضة الإحسان؟ ومعلوم أن الدواعي عوارض على الذات وتطلبات من النفس، وما يعقل ذلك إلا الذات، يدخل عليها داخل من شوق إلى تحصيل ما لم يكن لها وهي إليه محتاجة، فإذا وجد ذلك العرض سكن الشغف وفتر الداعي، وذلك الحاصل يسمى غِنًى، والقديم لم يزل موصوفًا بالغنى منعوتًا بالاستقلال بذاته الغنية عن استزادة أو عارض، ثم إذا نظرنا في إنعامه رأيناه


(١) هذا الكلام يدور حول مسألة تعليل أفعال الله تعالى، والمقصود به: تعليل أفعال الله تعالى بالحِكم والغايات الحميدة، فالذي عليه السلف ودل عليه الشرع في مواضع كثيرة: أن أفعال الله تعالى معلّلة بعلل غائية وحكم، وهي على ضربين:
الضرب الأول: حكمة تعود إليه تعالى، يحبها ويرضاها.
الضرب الثاني: حكمة تعود إلى عباده، هي نعمة عليهم، يفرحون بها، ويلتذون بها، وهذا يكون في المأمورات وفي المخلوقات.
فالله -كما قال ابن القيم-: (سبحانه حكيم لا يفعل شيئًا عبثًا ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تُحصى). شفاء العليل (٣٨٠).
وخالف في هذه المسألة الأشاعرة الذين نفوا الحكمة وأنكروا التعليل، وقالوا: إن الله خلق المخلوفات، وأمر بالمأمورات، لا لعلة ولا لداعٍ ولا باعث، بل فعل ذلك لمحض المشيئة، وصِرف الإرادة. أما المعتزلة فأثبتوا حكمة، هي مخلوقة ومنفصلة عن الخالق تعالى.
وابن عقيل هنا كأنه يجنح إلى نفي التعليل، وإثبات الحكمة، وهذا تناقض!
انظر: مجموع الفتاوى (٨/ ٣٥ - ٣٦)، منهاج السنة (١/ ١٤١ - ١٤٤)، غاية المرام للآمدي (٢٢٤ - ٢٢٦)، نهاية الإقدام للشهرستاني (٣٩٧)، الحكمة والتعليل، د. المدخلي (٣٦ - ٤٣، ٥٠، ٦٢ - ٦٣)، موقف ابن تيمية من الأشاعرة (٣/ ١٣١٠ - ١٣١٢).

<<  <   >  >>